ما العمل للخروج من هذا النفق؟!
بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، سألني إعلامي يعيش خارج مصر، أين الصحفيون المصريون، ولماذا هم صامتون على الانتهاكات الموجهة اليهم، التي وصلت إلى حد اقتحام نقابة الصحفيين بواسطة الأمن واختطاف اثنين من الصحفيين واعتقال العشرات من الصحفيين لأنهم عبروا عن رأيهم في بيع جزيرتي تيران وصنافير، واستكمل تساؤلاته الاستنكارية عن أسباب تقاعس الجماعة الصحفية وتهاونها في مواجهة القمع والاهانات، برغم أنها كانت صاحبة مجد قديم في الدفاع عن حقوقها وأوضاعها كجماعة قوية تؤمن بحرية الرأي والتعبير.
وطوال الوقت الذي كان الزميل الإعلامي يسأل فيه هذه الأسئلة، كنت أنظر إليه مستغربا، وقلت له سبق وأن أجبت عن هذا السؤال أكثر من مرة، فالوضع في مصر واضح بجلاء حيث القمع يطول الشعب المصري بكل طوائفه وفئاته، والجماعة الصحفية جزء من هذا المجتمع لهم ما له وعليهم ما عليه، وهم ليسوا سلطة رابعة بالمعنى الخاطئ السائد بين الكثيرين، وإنما هم ضمير أمة لكي يعبروا عنها لابد أن يعيشوا معاناة الأمة، فلماذا تتوقع من الجماعة الصحفية وحدها التصدي لهذا القمع، وكأنها جيش أو جماعة مسلحة تمتلك القدرة على مواجهة جبروت السلطة العسكرية وبطشها ولكنها تتقاعس!!! وأكملت إجابتي عن سؤاله قائلا، في الوقت الذي تشير إليه والذي فيه كانت الجماعة الصحفية واقفة بصمود وتصدي أمام بطش السلطات، هو نفس الوقت الذي كانت فيه الأمة بكل فئاتها تقف نفس الموقف بل وأشد، وإذا كان للجماعة الصحفية دور متقدم بخطوة عن المجتمع بحكم دورها في نشر الوعي وكشف الحقائق إلا أنهم في المجمل كانوا يتحركون تحت مظلة حماية المجتمع وبضمان الفاعليات الشعبية لا العكس.
وانتهى الحوار بين وبين زميلي الإعلامي، إلا أن الحوار ظل مستمرا داخل ذهني في دوامات من الجدل الذاتي الداخلي، فردي كان عن حدود مسؤولية الجماعة الصحفية عن الأوضاع المحيطة وكان ردًا أشبه بالدفاع عن هذه الجماعة بحكم انتمائي اليها، إلا أن الرد نفسه أثار داخلي تساؤلات أبعد من تساؤلات زميلي الإعلامي، فإذا كانت الأزمة تطول المجتمع كله فلماذا المجتمع بكل فئاته يقف صامتا أمام كل الانتهاكات الموجهة إليه من النظام الذي يحكمه الآن رغم بشاعتها وعنفها ونتائجها المميتة على كل المستويات، حتى إننا بشهادة معاصرة نستطيع الجزم بأن حجم الانتهاكات التي نعيشها الآن أكبر بكثير من حجم الانتهاكات التي شكلت دافعا ومبررا لثورة الشعب عام 2011، وانتقلت بتساؤلات زميلي الإعلامي من مسؤولية الجماعة الصحفية عن الصمت إلى مسؤولية المجتمع كله، لتشكل لي حيرة ودافعا للبحث عن أسباب هذا الصمت الرهيب لشعب كانت له صولات وجولات وبطولات وتاريخ مشرف في مواجهة الظلم من خلال أكثر من مناسبة واكثر من حدث، فما الذي حدث، وما العمل للخروج من هذه الحالة؟
لن تكون إجابتي عن التساؤل إرشادات وتوجيهات على طريقة قادة فرق الجيش أو مدرسي الإلزامي الفاشلين، وإنما هي كلمات تعكس مشاهد التمست فيها معاني لها علاقة بأزمتنا، الأدق هي محاولة لإثارة جدل ينعش حالة التفكير الجماعي تمهيدا للتخلص من أسلوب القائد والمقود.
في كتابه “الجيل الذي واجه عبد الناصر والسادات” يقول الدكتور هشام السلاموني “إن عبد الناصر تعامل مع مظاهرات الطلاب عام 1968 تعاملا سلطويا”، وما يعنيني في هذا المشهد الذي لخصه الدكتور هشام تفصيلة تتعلق بفكرة القيادة والتعبير عن أهداف الحركة الطلابية آنذاك، فقد كان رئيس اتحاد الطلاب في ذلك الوقت هو الدكتور عبد الحميد حسن، الذي أصبح فيما بعد محافظا للجيزة وحوكم بتهمة الفساد، ما علينا ودون الدخول في تفاصيل، شهدت هذه الفترة تحركات طلابية سياسية ذات أهداف واضحة في كل جامعات مصر انتهت بضرورة عقد مؤتمر كبير يشرح فيه الطلاب رؤيتهم بعد هزيمة 1967، وهو ما لم يرق للسلطات، وباكتشافها شخصية عبد الحميد حسن رئيس اتحاد الطلاب وجدت فيه المخرج من هذا المأزق، فكان واجهة الحوار مع السلطة بصفته رئيس اتحاد الطلاب وفي المضمون كان سلاحا قويا لإجهاض المطالب الطلابية بحكم تركيبته الانتهازية التي رصدتها السلطة ونجحت في استخدامها للاتقضاض على المد الطلابي آنذاك، صحيح أن الطلاب عزلوا عبد الحميد حسن بعد ذلك من اتحاد الطلاب ولكنه كان قد نفذ مهمته بحرفية ونجاح وبعدها فتحت أمامه كل الأبواب للصعود السلطوي، فقد كان كما يصفه وائل عثمان في كتابه “أسرار الحركة الطلابية” الوحيد الذي استطاع الوصول لقلب عبد الناصر وحدث بينهما تفاهم مشترك.
الشاهد أن الحركة الطلابية آنذاك ظلت في تصاعد وقوة مؤرقة للسلطة بكل بطشها، حتى سلمت أمرها للقيادة دون رقابة ومتابعة جماعية، فكان من السهل الوصول إلى تفاهمات بين القيادة النخبوية والسلطة، ولا أقصد بالطبع اتهام كل القيادات بالخيانة ولكني أوضح أن صمام الأمان هو يقظة أصحاب المصلحة والمشاركة الجماعية في القيادة لا التسليم باسلوب الوكالة في القيادة .
ودون الدخول في تفاصيل دقيقة تكررت المأساة بعد انتفاضة 1977 التي عكست وجود تيارات غاضبة في الشارع المصري وخاصة بين العمال والطلاب، فبدأت السلطة بقيادة الداهية أنور السادات في تطبيق أسلوب التدجين النخبوي، أي الهيمنة على الشارع المعارض عن طريق النخب التي تتصدر المشهد وهو ما يفسر ارتكانه على الأحزاب الشرعية التي كان قد أعلنها كتعبير عن كل الاتجاهات المعارضة في مصر، وتحالف النظام مع هذه الأحزاب في استيعاب حركة المعارضة الصاعدة آنذاك ونجحوا في ذلك نجاحا ممتد المفعول، حتى نهاية فترة حكم حسني مبارك، وخروج الشارع في انتفاضة جماهيرية عام 2011 ظلت تحمل صفة النجاح حتى تكررت معها نفس المأساة الاستيعابية واستخدام النخب القافزة لمنصة القيادة في استيعاب الصعود الجماهيري وإخماد جذوة الثورة، ولكن هذه المرة استفاد النظام من التجارب السابقة أكثر من استفادة الشعب، فلم يكتف بالهيمنة ولكنه قيد المجتمع بإقفال السيطرة المعتمدة على العنف الباطش المستند على القتل وفتح أبواب السجون ومطاردة المعارضين ووضع الشعب في حالة إنهاك وإعياء دائمين سواء بفعل الرعب أو بفعل الجوع والمرض والفقر.
حتى لا يتوه الهدف من كلامي أوضح أنه طوال الوقت الذي كان فيه التحرك الجماهيري مدفوعا بما يعانيه الشارع والشعب من آلام، وتحركه قيادة فطرية وليست نخبوية، كان هذا التحرك في صعود، وما أن يتم استيعابه بالحوار مع قيادات نخبوية تتخذ من المؤامة والتوازن أسلوبا، حتى يبدأ منحنى الهبوط.
وحتى لا أتهم بالسودواية والإحباط، وأنني أرصد مشاكل ولا أبحث عن حلول أشير باختصار أن جماهير أنجح ثورة في العصر الحديث نجحت في حل هذه المعادلة والجمع بين القيادة المعبرة عن الجماهير والصعود الثوري، ولفظ أسلوب الوكالة للقيادات النخبوية، حيث ظلت جماهير الثورة الفرنسية متفاعلة ومراقبة يقظة لأداء القيادة التي اختارتها الجماهير عن طريق جمعية عمومية للثورة تعكس إرادة الشعب الفرنسي من خلال تشكيلات في الأحياء والمناطق تنقل التفاعل والرؤى الجماهيرية للقيادات، وفي نفس الوقت تراقبها، وتضمن طوال الوقت دقة تعبير الممثلين عنهم واستبدالهم إذا ما انحرفوا عن المسار، وأيضا تضمن طوال الوقت إفرازا دائما لقيادات متجددة من بين الشعب وهو ما يشكل نواة ديمقراطية حقيقية وحرية مصانة بالرقابة الشعبية.
إذا الحل يتلخص في نهضة شعبية تفرض إرادتها، وتستمر في رعاية مصالحها لا أن تثور صباحا، وتعود إلى أدراجها ظهرا بعد أن تسلم ثورتها لوكلاء من النخب المتوازنة يقومون مساء بإعادتها مرة أخرى للمغتصب!
الحل في شعب يقظ واعٍ يجدد رؤيته ويطورها ويضع مصالحه الجماعية في المقدمة، شعب هو الجمهور وهو القيادة ويجدد شبابه دائما بإفساح الفرص أمام الأجيال.
وهو ممكن وسهل التحقيق .
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه