العلماءُ المُضلِّلُونَ بالصّمتِ والكِتْمَان
صنفان من العلماء:
بيّن الله تعالى في قوله: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ”، صفات كلٍّ صنفينِ من العلماء الذين أوتوا العلم كلاهما على الباطل ومن أهل التّضليلِ من حيثُ السّلوك والتّأثير.
صفة الصّنف الأوّل هي إلباس الحقّ بالباطل؛ أي خلط الحق بالباطل بطريقة متعمدة وتشويه الحقائق وتضليل العباد، وهؤلاء هم الذين باعوا دينَهم بدنيا غيرهم من الحكّام الظّلمة أو التّجار والأثرياء الطّغاة، وهم من الخطورة بمكانٍ، وقد عرّاهم النّاس واكتشفوا زيفهم وضلالهم؛ غير أنّ موضوعَنا هو الصّنف الثّاني الذي لا يلتفتُ إليه الكثيرون.
وأمّا صفة هذا الصّنف الثّاني من العلماء المضلّلين؛ فهي كتمان الحقّ والسكوتُ عن أهل التّلبيس والتّضليل والنّفاق والمداهنة، والصّمتُ حيثُ يجبُ الكلامُ، والانزواء عند شدّة حاجة النّاس إلى البيان والتّبليغ، مع وجودِ القدرة على القول والتبيّين، وانتفاء المانع الحقيقيّ الباعثِ على الصّمت، والتذرُّع لأجل السّكوت بالخشية من المخاطرِ غير الحقيقيّة، أو التذرّع بالمصالح الموهومة، أو إلباس المصالح الشّخصيّة مصلحة الدّين وتبرير الصّمت بها.
إنَّ أسوأ ما يمارسه مَن يُتوَخَّى فيهم الصلاح من العلماء والدعاة، أو مَن يدّعون الموضوعيّة والواقعيّة والفهم والحنكة؛ هو التلفّع بالصّمت حيث يجب القول، والنكوص حيث يتحتّم الإقدام، مع القدرة على القول والبيان، وابتلاعُ الكلامِ حيثُ يجبُ إطلاقُه، وتقصيرُ اللّسان حيثُ يجبُ تطويلُه، والسّكوتُ في الموضعِ الذي يُفهَم فيه مِن السّكوت موقفٌ، ويعدّ فيه السّكوتُ ضربًا من البيان؛ حيثُ إنّ السّكوتُ في معرضِ الحاجةِ إلى البيانِ بيانٌ.
وقد جاء ترتيب هذا الصّنف من العلماء المضلّلين بعد الصّنف الأوّل الذي يقوم بإلباس الحق بالباطل وقلب الحقّ وتحريفه؛ لأنّ كتمان الحقّ من أهل الصلاح والتّقوى أو مَن يفترض فيهم ذلك تحت أي ظرف من الظروف هو الذي يسهّل لعمائم التّضليل والنّفاق وعلماء الطّغاة والسلاطين مهمتهم، ولو صدعَ أهلُ الحقّ وجهروا به لما تمكن أهل التّلبيس من إتمام جريمتهم بالسّهولة واليسر الذي يؤدّونه في ساحةٍ خاليةٍ لهم؛ فارغةٍ من مخالفيهم.
والأمّة التي يلبّسُ أهل الضّلال فيها على الناس بكلّ أريحية يعضدهم ويعينهم على ذلك خرس أهل الحق؛ لا محالةَ هيَ أمةٌ بائسةٌ تضيعُ فيها الحقائقُ، وتتيهُ في شعابِ باطلها الجماهيرُ، ولن تقوم لها قائمةٌ بين الأمم.
فالعلماءٌ والدّعاةُ الذين كانوا يرفعونَ عقيرتهم ـ على سبيل المثال ـ بالإنكار على الرّئيس محمّد مرسي ـ رحمه الله تعالى ـ متباهين بقول الحقّ في وجه الحاكم، والصّدعِ بالأمرِ في مواجهة السّلطة السياسية بلا خوفٍ ولا وجل؛ مستغلّين أدبِ الرّجل وحسنَ أخلاقه، حتّى إذا جاء السيسي صمتوا صمت القبور وابتلعوا ألسنتهم متذرّعين بالحكمة والعقلانيّة حينًا، ومبرّرين جبنهم وخورَهم بالمصالح والمفاسد حينًا آخر؛ هم علماء مضلّلون.
والعلماءُ الذينَ يرفعونَ عقيرتهم ببيان ضلالاتِ الحكّام المجرمين في البلدان التي لا مصالحَ شخصيّة لهم فيها أو معها، ثمّ يتجنّبون قول الحق الأبلج ـ على سبيل المثال ـ في إجرام حكام آل سعود بحقّ المسلمين، وتدمير ومعاداة كياناتهم ومشاريعهم الفاعلة على امتداد الأمّة، وقلب ربيعهم خريفًا، والانقلاب على ثورات الشّعوب والتآمر عليها، ويصمتون عن نصرة إخوانهم المعتقلين في سجون السّعوديّة من العلماء والدّعاة أو من داعمي فلسطين من المعتقلين الفلسطينيين وغيرهم ولو بكلمةٍ خشيةَ منعهم من الحج والعمرة؛ هم علماء مضلّلون.
إنَّ الله تعالى يعذرهم في الحجّ والعمرة، ويعذرهُم في منعهم من أداء المناسك، ولكنه لن يعذرهم في السّكوت عن الحق مع القدرة على قوله، والتّلبيس على الأمة وتجميل قبيح فعال الطّغاة المجرمين بصمتهم الذي لا تخفى دلالته.
ويُعدّ صمتُ هذا الصّنف من العلماء المُضلّلينَ مع القدرة على القول إقرارًا بما تمّ الصّمت عنه من الجرائم والباطل، وهذا ما لا يفعله العلماء الصّادقون الرّبّانيّون
وقد بيّن هذه الحقيقةَ المرّة الإمام الشّاطبي في كتابه “الموافقات” الذي يعدّه جميع العلماء كتابًا عظيمًا ونبراسًا منيرًا، حيث يبيّن بكلّ وضوح بأنَّ الفتوى لا تصدر عن العالم بالقول وحده بل بالفعل أو بالإقرار أي الصّمت، ويقول كلامًا بالغ الأهميّة عن الأثر الشرعيّ لهذا الإقرار والصّمت من العلماء:
“وأمَّا الإقرارُ فراجعٌ في المعنى إلى الفعل؛ لأنَّ الكفَّ فعلٌ، وكفُّ المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحِه بجوازه، وقد أثبتَ الأصوليّون ذلك دليلًا شرعيًّا بالنسبة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فكذلك يكون بالنسبة إلى المنتصب بالفتوى، وما تقدّم من الأدلّة في الفتوى الفعليّة جارٍ هنا بلا إشكال، ومن هنا ثابرَ السَّلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ولم يبالُوا في ذلك بما ينشأ عنه من عَوْدِ المضرَّات عليهم بالقتل فما دونه، ومَن أخذ بالرّخصة في ترك الإنكار فرَّ بدينه، واستخفى بنفسه، ما لم يكن ذلك سببًا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار”
وهكذا نعلم أنَّ الصّامتين من العلماء والدّعاة مع قدرتِهم على الكلام والبيان هم من فتحوا الطّريق أمام المبطلين والمطبّلين من العلماء المُضلّلين بالتحريفِ والتّلبيسِ وتغيير الحقائقِ وقلبِ الحقّ باطلًا والباطل حقًّا، فهؤلاء الصّامتون مع قدرتهم على البيان لا يقلّون تضليلًا عن أولئك المنافقين المداهنين. المُلبّسين
فالتّصفيق للباطل والصّمت عليه، والنّفاق للإجرام والسّكوت عليه، والمداهنة للطّغاة وإغلاق الأفواه عن طغيانهم؛ كلّها ظلماتٌ من المسخِ والتّضليلِ بعضها فوق بعض، لا يفلح فاعلها، ولا يُعذرُ مجترحها.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه