هل كان النبي خائنًا لوطنه؟
عندما طغى سادة قريش ومدوا يد الغدر والتعذيب والتنكيل والمكر إلى النبي الكريم وصحبه الأطهار، أمرهم صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، ثم الهجرة بعد ذلك إلى المدينة..
ثم لحق بهم صلى الله عليه وسلم مهاجرًا، فهل كان خائناً لوطنه الذي ولد فيه وترعرع!! أم كان هارباً من يد العدالة القرشية ، أم كان تركاً للمعارضة الداخلية واستبدلها بالمعارضة من الخارج مع الخونة والمجرمين!!
حينما تعاهد سراً مع الأنصار على حمايته ونصرة دعوته وإخوانه، هل كان متآمراً مع بلد أجنبي على وطنه وبلده! مستعيناً بعملاء من الخارج لزعزعة أمن البلاد وأمانها!
حينما بنى في المدينة مسجداً يتعبد فيه المسلمون لربهم، ويديرون منه حركة دعوتهم وينشرون دينهم، هل كانوا يتلقون دعماً خارجياً ليدمروا مكة مهبط الوحي وموطن بيت الله العتيق، ويخونوا عهدها!!
لما عاد أبو سفيان بقافلته من الشام، وخرج النبي وصحبه الكرام يعترضونها ليستعيدوا بعضاً من أموالهم التي ُسلبت، وبُيوتهم التي صودرت، وممتلكاتهم التي نُهبت، هل كانوا إرهابيين قطاع طرق، وهل كانوا وقتها يطعنون وطنهم، ويخونون بلدهم،ويسعون إلى تدمير اقتصاده، وتجويع أهله!!!
آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار، وجعل رابطة الإيمان هي الرابطة الأعلى من رابطة النسب والوطن والقبيلة واللغة، فهل كان متمرداً على الرابطة القريشية، مٌهدراً لمكانة خير بلاد الأرض!!
حينما تقابل جيش المسلمين وفيه الأنصار والمهاجرين مع جيش القوات المسلحة القريشية التي خرجت بطراً ورئاء الناس، تتغنى بتاريخها الطويل، وعددها الكثير، هل كان محارباً لوطنه، قاتلاً لخير أجناده، متآمراً على عشيرته، خائناً لأمانته!!
حينما يشعر الإنسان بقيمته وحفظ كرامته والأمن على نفسه ودينه وأهله فهو في وطنه وإن كان في أقصى بلاد العالم ، وإن حرم منها فهو غريب وإن كان يعيش في بيت أجداده.
حينما قتل المسلمون زعماء قريش، وأكابر مجرميها وطغاتها في غزوة بدر، كأبي جهل بن هشام ،وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، و شيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة وغيرهم ،هل كانوا يومها يطعنون الوطنية في مقتلها، ويخونون عهد الولاء لجيشها الباسل، ويتآمرون مع ثلة من الأعداء على أمنها وأمانها، وهي التي شرفها الله تعالى في كل الأديان!!!
حينما جاءت القوات القريشية إلى جبل( أٌحد) فقتل المسلمون منهم عدداً كبيراً، ففروا هاربين، ثم استغلوا ثغرة الرماة فالتفوا راجعين بقيادة خالد بن الوليد يقتلون المسلمين، هل كان ذلك انتصاراً للوطن، ودحراً للمتمردين، وعونا من الله للطغاة السفاحين!!
أما حينما جمعت القوات القريشية الحلفاء من العرب، وحشدوا أصحاب الولاءات القبلية، والنعرات العصبية، وكونوا جيش الأحزاب ليقضوا على الدعوة ودعاتها فشتت الله شملهم، وفرق جمعهم، وعادوا خزايا مدحورين،فهل كان ذلك إضراراً بسمعة الوطن، وتشويهاً لقيادته الرشيدة، وتدميراً لقواته الباسلة!!!
كل ذلك كذب وبهتان ، فما أحب أحد بلده كما أحبه النبي صلى الله عليه وسلم : وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على الْحَزْوَرَةِ فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك. رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
ولم يكن أحد يحب بلده كما أحبه الصحب الكرام، فقد اشتدت عليهم الوحشة، وفاض بهم الحنين إلى مكة رغم ما لاقوه من تعذيب واستبداد، وأصبح بعضهم يتغنى شوقاً إلى جبالها ووديانها..
فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه قائلاً: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ، وصَحِّحْهَا، وبَارِكْ لَنَا في صَاعِهَا ومُدِّهَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بالجُحْفَةِ. صحيح البخاري..
وفي رواية أنه دعا على الطغاة والمجرمين الذين تسببوا في هذا الحرمان فقال : للَّهمَّ العَنْ شيبةَ بنَ ربيعةَ، وعُتبةَ بنَ ربيعةَ) وغيرَهم فأزال الله مابهم من وحشة، ورزقهم محبة المدينة المنورة، فهل هؤلاء كانوا خونة لوطنهم!!
لم يكن أحد رفيقاً بأهله كما كان النبي والصحب الكرام، فقد عاد فاتحاً لبلده فلم يكن منتقماً عتيداً، بل كان كريماً رفيقاً، فأعاد لأصحاب الحقوق حقوقهم، وخلص البلاد من أكابر المجرمين، وقال لعامة الناس اذهبوا فأنتم الطلقاء!!
لم يكن الوطن أبداً متمثلا في ثلة الطغاة والمستبدين ومن تبعهم من أصحاب المصالح والمنافقين، فهؤلاء أعداء كل وطن، وكلاب كل بلد، وخونة كل عهد، لانجاة للأوطان إلا بالتخلص منهم.
إن كثيراً من الأعلام المرفوعة هي في الحقيقة أصناما يستعبد بها المستبدون والطغاة عامة الناس ليجبروهم على مداومة الطاعة العمياء ، والاستمرار في الطواف بها خدمة لطغيانهم، وتدعيما لسلطانهم، وتشريعاً لفسادهم.
لم يقبل الله من المسلمين أن يعيشوا محرومين من حقوقهم، مضيعين لدينهم وكرامتهم تحت مسمى الاستضعاف، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
فالخونة هم الذين يُصدرون أنفسهم على أنهم الوطن!! وباسمه ينهبون، ولأهله يقتلون، ولممتلكاته يبيعون، ولمقدراته يُدمرون، ولطاقاته يُهدرون، ولأعدائه يوالون!!
لم يكن الوطن أبداً أرضاً، أو عَلَماً أو شخصاً، ولكنه الطمانينة والأمان، الإنسانية والإكرام ، الحرية والسلام ، فإن حُرم الإنسان من تلك المعالم أو بعضها فليس في وطنه إنما في وطن الأعداء، وقديما قال سيدنا علي : لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ، خَيْرُ اَلْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.
وطنك هو ذاك المكان الذي استطعت فيه أن تقوم بمهمتك في الأرض دون تخويف وأن تعيش بمبادئك دون تهديد، وأن تامن على أهلك ومالك دون إرهاب وتنكيل.
إذا كنت تعيش خائفا من كل كلمة تتلفظ بها، مرتعداً من بطش أنظمتها، لست آمنا على نفسك وأهلك ومالك، ليست لك حرية رأي أو اختيار، فأنت يقيناً في وطن الأعداء ولست في وطنك.
وأخيراً أقول:
لم تكن أرض الاستعباد والاستبداد وطناً ولو عاش فيها الإنسان قروناً؛ولم يُنتج التسلط والإرهاب والطغيان ولاء لأرض أو لراية مهما كانت قيمتها، ومهما عظم تاريخها.
إن كثيراً من الأعلام المرفوعة هي في الحقيقة أصنام يستعبد بها المستبدون والطغاة عامة الناس ليجبروهم على مداومة الطاعة العمياء ، والاستمرار في الطواف بها خدمة لطغيانهم، وتدعيما لسلطانهم، وتشريعاً لفسادهم.
حينما يشعر الإنسان بقيمته وحفظ كرامته والأمن على نفسه ودينه وأهله فهو في وطنه وإن كان في أقصى بلاد العالم ، وإن حرم منها فهو غريب وإن كان يعيش في بيت أجداده.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه