تقييم الدعوة لتشجيع كتابة السيرة باللهجة العامية

  وقفت على صفحة لإحدى الفضليات تعرض السيرة النبوية كتابة باللهجة العامية، من باب تقريب المعاني لشريحة من الناس، والوصول إلى شريحة لم تعد تقرأ، وتستسيغ هذه الطريقة في العرض، ووجدت من يشجع هذا التناول بحسن قصد.
وأريد أن أذكر بعض النقاط لعلها توضح الصورة أمام المؤيدين لهذه الدعوة، مع حسن الظن بهم وتقدير الدوافع المحمودة لديهم.

أولا:

اللغة العربية أداة لفهم القرآن الكريم الذي نزل بها، والسنة التي وردت بها، وهما مصدرا التشريع والتوجيه، والحديث بها من شعائر الإسلام، وهي أهم الوسائل التي حفظت على المسلمين وحدتهم، ولولا تمسك أجيال المسلمين المتعاقبة باللغة العربية – حديثا وقراءة وكتابة وتأليفا – لتحولت اللهجات العامية المحلية إلى لغات شتى مستقلة لا تمت للغة الأم بصلة، مثلما حدث مع اللغة اللاتينية، حيث تشعبت عنها لهجات تحولت خلال أربعمائة سنة فقط إلى لغات مستقلة لا يكاد يربطها باللغة الأصلية رابط، ونحن الآن نقرأ القرآن الكريم ونفهمه، كل حسب نصيبه من اللغة، ونقرأ السنة النبوية والسيرة ونفهمهما دون الحاجة إلى الرجوع المستمر إلى المعاجم، رغم مرور ألف وأربعمائة سنة على نزول القرآن ومن بعده تدوين السنة، ولولا اللغة التي حفظت علينا وحدتنا وتراثنا ما فهمنا تشريعنا، ولو أن صحابيا بعث إلينا اليوم وتحدث إلينا لفهمناه وفهمنا، رغم مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة بيننا وبينه، وذلك بفضل تمسكنا باللغة العربية، ولو ترك الأمر للهجات العامية من البداية لاتسعت الهوة بيننا وبين القرون الأولى من عمر الإسلام، وأصبحت اللغة التي دونت بها السنة والسيرة وغيرهما من العلوم لغة أجنبية عنا، لا نستطيع فهمها، ونحتاج إلى من يفك لنا رموزها،
ولذلك كان أحد أهداف الاستعمار في بلادنا أن يهدم عوامل الوحدة بين الأمة، وكان أهمها اللغة العربية، فشجع الكتابة والتأليف باللغة العامية في الوسائل التي كانت متاحة وقت احتلاله.

ثانيا:

 إذا كانت هذه الدعوة تشجيعا للمدونين من غير المتخصصين الذين لا يتقنون الكتابة ولا الحديث باللغة العربية، ولكن يملكون أفكارا صحيحة وحسا دعويا ويريدون أن يخدموا دينهم ويفعلوا شيئا لنفع عموم الناس، فهؤلاء يحمد لهم هذا الدافع، ويشكر لهم هذا الحس، ويحسن بهم أن يدرسوا دراسة ميسرة لمعرفة القواعد الأساسية للكتابة بالعربية ما داموا يريدون التصدر للقيام بدور إيجابي في معركة الوعي، وليجربوا تحويل ما كتبوه بالعامية إلى لغة فصيحة سلسة سهلة، أعتقد أن هذا سيصل لنفس الجمهور دون أي ثقل أو صعوبة أو غرابة كما يدعى. وإذا كانوا يكتبون خواطر باللغة العامية فهذا قد يتسامح فيه، أما أن تكتب السيرة النبوية أو غيرها من العلوم الشرعية على هذا النحو، فلا أراه اتجاها صحيحا مهما كانت الدوافع حميدة.
وأما إذا كانت هذه الدعوة موجهة لتشجيع الدعاة والمتخصصين للكتابة بالعامية تسهيلا وتقريبا للقراء؛ فتلك طامة كبرى لأننا نعاني أصلا من اضمحلال التكوين اللغوي والعلمي لكثير من الدعاة – أداء ولغة ومعنى وفكرا – باعتبار ذلك نتيجة لسياسة تجفيف المنابع الممنهجة والمتبعة منذ سنين في بلادنا لتخريج أجيال من الدعاة غير قادرة على القيام بدورها، ولا تستطيع أن تجمع بين الأصالة والمعاصرة، ولا أن تقف على التراث وعينها على الواقع، لتكون بصيرة بزمانها.

ثالثا:

يأتي دور الداعية في تبسيط المادة والمعرفة من خلال الكتابة بلغة عربية سلسة وبسيطة سهلة، ومن المقبول أن يطعم حديثه ببعض المفردات من اللهجة العامية أثناء الحديث أو العرض والحوار والدرس للتوضيح – دون الكتابة والتأليف والتدوين – بالقدر الذي يحقق الهدف ويفي بالغرض، باعتبار ذلك وسيلة للإفهام والتوضيح والتقريب، أو باعتبار ذلك نصيبه من القدرة على التحدث باللغة العربية، ولكن لا تتحول الوسيلة التي نضطر إليها للمخاطبة والحوار والتأثير في الشرائح المختلفة في معركة الوعي إلى دعوة عامة للتشجيع على كتابة السيرة والتأليف بها والتدوين.
فالقضية الكبرى إذَن تقع على عاتق الداعية المتمكن من اللغة، والمتمكن من علمه وتخصصه، ثم قدرته على التواصل مع الجمهور – كتابة وشفاهة – وعرض المعلومات وتوضيح المفاهيم ورد الشبهات بلغة عربية بسيطة وسهلة وماتعة وشيقة في آن واحد، مع التسامح ببعض العامية في الحديث والحوار دون الكتابة والتأليف
ولا يتهرب داعية من هذا إلا عاجز عن تعلم القواعد الأساسية للغة والتحدث بها وتبسيطها للمتلقين، أو غير مدرك لمخاطر الاستمرار في هذه الدعوة.
رابعا: إذا كانت أذواق شرائح من الناس قد تدنت، وأصبحت لا تستسيغ القراءة إلا بالعامية؛ فليس دور الداعية أن يجاريهم في هذا الواقع؛ بل واجبه أن يرتقي بهم تدريجيا – دون أن يشعروا – من خلال جمال أسلوبه، وسلاسة عباراته باللغة العربية البسيطة السهلة الماتعة، فإذا ادعي أن هذا أصبح قليلا اليوم؛ فإن تشجيع الدعوة لكتابة السيرة بالعامية سيجعله نادرا. وهناك كثير من الدعاة نجحوا في مخاطبة جماهير عريضة والتأثير فيها من العوام والمثقفين على حد سواء كتابة وشفاهة، ولم يتخلوا عن اللغة العربية، كما أن كثيرا من الجمهور ما زالوا يستهجنون حديث الدعاة والمدونين باللغة العامية، ولا يستسيغون سماع الحديث بالعامية أو الكتابة بها، ولا يتقبلون ذلك منهم، حتى وإن كانوا هم لا يتقنون التحدث باللغة العربية.

وفقنا الله لخدمة دينه ولغة كتابه الكريم

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان