ماذا فعل عبد الناصر بالأقباط؟
كان الأقباط في مصر الملكية يمارسون الحياة السياسية باعتبارهم مواطنين مصريين، ولم تكن للدولة موقف محدد منهم؛ فظهرت الرموز القبطية بوضوح في المجالس النيابية والحكومات كممثلة للمصريين جميعا مثل القيادي الوفدي ووزير المالية الأسبق مكرم عبيد “1889-1961” أحد أهم رموز الحركة الوطنية المصرية. كما لم يكن للكنيسة المصرية دورًا واضحًا في الشأن العام خلال الفترة ما قبل أحداث يوليو عام 1952، فقد تميزت هذه الفترة بالفصل الواضح بين الرموز الدينية والرموز المدنية للأقباط، فكان ظهور الرموز الدينية في الأحداث العامة محدودًا جدًا، ويتعلق بالقضايا ذات الإجماع الوطني كمقاومة الاحتلال كما حدث خلال ثورة 1919 التي أيدها البابا كيرلس الخامس وتمت الدعوة لها في الكنائس والمناسبات الدينية المسيحية كما شارك القساوسة ورجال الدين في المظاهرات.
مع انتهاء الفترة الملكية في مصر على يد حركة الضباط الأحرار دخلت عده متغيرات على طبيعة علاقة المكون المسيحي المصري بالجماعة الوطنية، وعلى فلسفة العلاقة بين السلطة ومؤسسات ورموز المسيحيين المصريين؛ فبدلاً من تواصل السلطة بالمكون المسيحي عبر بوابة المواطنة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني أصبح التواصل يتم عبر مؤسسات الكنيسة المصرية حصرياً ورجالتها بداية من البابا وانتهاءً بالقساوسة والرهبان!، وبهذه الطريقة انسحب المكون المسيحي بالتدريج من المشاركة المجتمعية مع الجماعة الوطنية في كافة الأنشطة الاجتماعية والثقافية والسياسية وأصبحت معادلة السلطة مع المكون المسيحي قائمة على هذه الاستراتيجية “المسيحيون في جيب البابا والبابا فى جيب السلطة “. وفق تعبير المفكر المسيحي ميلاد حنا.
التوجه العام للدولة بمعاداة الأجانب الذين كانت تربطهم ببعض الأقباط مصالح مشتركة قد أسهم في هجرة عدد كبير
أيد الأقباط بشكل عام والكنيسة المصرية بشكل خاص حركة ضباط الجيش في 23يوليو1952 شأنها شأن بقية المصريين حيث كان وصول الرئيس جمال عبدالناصر إلى السلطة متزامنًا مع تحولات داخل الكنيسة القبطية بوصول البابا كيرلس السادس إلى مقعد البابوية عام 1959 على أعقاب أعنف أزمة حدثت في تاريخ الكنيسة المصرية بعد اختطاف البابا يوساب الثاني من قبل جماعة الأمة القبطية، قبل أن تضطر إلى إعادته مرة أخرى تحت ضغط المجتمع القبطي قبل أن يتم إبعاده مرة أخرى لمدة 3 سنوات مكث خلالها في المستشفى القبطي بدعوى تلقي العلاج قبل أن تعلن وفاته في ظروف غامضة، وتُجرى تغييرات في لائحة الكنيسة سمحت بأن يصبح كيرلس السادس بابا للكنيسة ؛ وقد تزامن وصول كيرلس السادس إلى مقعد البابوية مع توجه أكبر للكنيسة نحو تأسيس نوع من العلاقة بالدولة اتسمت في أوائل عهدها بنوع من الود والصداقة -وصفها محمد حسنين هيكل في كتابه “خريف الغضب” بأنها علاقة إعجاب متبادل بين الرجلين- حيث عقد عبد الناصر شراكة مع البابا كيرلس السادس”، ضمن من خلالها ولاء الكنيسة ودعمها للنظام السياسي الجديد، بينما تولى عبدالناصر تأمين وحماية أمن المسيحيين ومكانة البابا وعدم التدخل في الشأن الداخلي للكنيسة، فلم تتدخل الدولة مثلا في خلافات الكنيسة في أواخر عهد البابا يوساب الثاني.
وعلى الرغم من العلاقة الجيدة للأقباط بالدولة في هذه الحقبة إلا أن التوجه العام للدولة بمعاداة الأجانب الذين كانت تربطهم ببعض الأقباط مصالح مشتركة قد أسهم في هجرة عدد كبير من الأقباط إلى خارج مصر في هذه الفترة، وكان لدى المكون المسيحي أربعة تحفظات على حركة الضباط الأحرار هي:
أولاً: عدم وجود تمثيل مسيحي نهائياً في تركيبة الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة.
ثانياً: تقارب الضباط الأحرار مع جماعة الإخوان المسلمين وقد تجلي ذلك في إبقاء جماعة الإخوان المسلمين وعدم حلها.
ثالثاً: لجوء حركة الضباط الأحرار إلى سياسية التأميم للمشاريع والممتلكات- الإصلاح الزراعي والتمصير- والتي طالت العديد من المسيحيين في تلك الفترة ، وقد ظهر الأقباط في تلك الساعة أنهم الأكثر تأثراً بقرارات التأميم والمصادرة، بحكم أنهم كانوا هم الجماعة الأوسع في تملك ألاف الأفدنة والعديد من المصانع والمؤسسات الاقتصادية منذ عهد الحاكم محمد على. وهنا نجد مفارقة واضحة فقد حظيت إجراءات التأميم ومصادرة الأراضي بتأييد الفئات الفقيرة والمُهمشة من المسيحيين وفى ذات الوقت لم تنل تأييد الطبقة البرجوازية المسيحية .
رابعاً: إلغاء الضباط الأحرار للمجلس الملي الذي كان يُدير شؤون الكنيسة وكان يتكون من 24 عضوا مسيحياً منهم 12 عضوا بالانتخاب و12 عضو بالتعيين؛ ونتج عن هذا القرار أن أصبحت الكنيسة المصرية تحت هيمنة النظام السياسي.
وعلى الرغم من هذه التحفظات الأربعة السابقة إلا أن الرئيس عبد الناصر سعى إلى تقديم خطاب سياسي منفتح على الأقباط وسعى إلى الاستعانة بالتكنوقراط الأقباط في الوظائف العامة فكان من أبرز الشخصيات المسيحية في الحكومة د/ كمال رمزي استينو وزيراً للتموين، وكمال هنري أبادير وزيراً للمواصلات، وقام بتعين قرابة عشرة أعضاء مسيحيين في البرلمان وفقاً لتعديل أدخله على دستور 1956 يسمح له بتعين 10 أعضاء في مجلس الأمة.
وقد جاء انفتاح عبد الناصر على المكون المسيحي بعدما اصطدمه بجماعة الإخوان المسلمين عام 1954 وبدأ في محاربتها فكريا عبر تشجيع تديّنٍ إسلامي معين، فقد أنشأ دار القرآن عام 1964 لنشر تراث القرآن، وكذلك إنشاء إذاعة القرآن الكريم ، وجعل الدين مادة أساسية في مراحل التعليم المختلفة باعتبارها مادة رسوب ونجاح لكنها لا تُضاف للمجموع، وأنشأ جامعة الأزهر في عام 1961.
وقد نتج عن هذه الإجراءات شعور المكون المسيحي بأنهم غرباء على هذه اللعبة، وهذا بطبيعة الحال أثر على بناء الهوية القبطية وجعلها تتمركز حول التاريخ المسيحي أكثر من تمركزها حول قيم المواطنة والتاريخ الوطني الجامع لكل المصريين؛ لذالك أعتقد أن التوترات الطائفية التي تقع في مصر اليوم هي نتاج ذاكرة تاريخية متوترة بسبب الإجراءات التي اتخذتها السلطة السياسية بعد العام 1952 في الشأن القبطي والكنيسي وما أحدثته من أثار سلبية على مفهوم المواطنة بين مكوني الجماعة الوطنية المصرية.