عندما يرفع حزب أتاتورك شعار: “عفا الله عما سلف”!

كمال كيليشدار أوغلو

في خطوة هدفت إلى استقطاب القوميين والإسلاميين أعلن كمال كيليشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري أكبر الأحزاب السياسية المعارضة في تركيا عن رغبته في السير باتجاه ما أطلق عليه “حملة المسامحة ” في إشارة واضحة إلى رغبته في الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها حزبه على مدى تاريخه والاعتذار عنها، مشيرا إلى أن تلك “المسامحة” لن تغير الماضي، لكنها -وفقا لوجهة نظره- ستنقذ المستقبل.

هدف نبيل يراد به باطل

ورغم أن الإقرار بالأخطاء والاعتذار هو هدف نبيل في حد ذاته ولا غبار عليه، خصوصاً إذا جاء رغبة في التخلص من عبء ميراث ثقيل كان وما زال يشوه صورة حزب الشعب الجمهوري في أذهان الكثير من الأتراك، لا سيما أولئك الذين عاصروا فترة حكم الحزب الواحد، وعانوا الأمرين من انفراده بالسلطة.

لكن أن يكون هذا الإقرار مجرد مدخل لاستقطاب أصوات الإسلاميين والقوميين الذين يمثلون القاعدة الإنتخابية لتحالف حزب الجماهير الذي يضم حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية فإن ذلك يخرج هذه الدعوى النبيلة عن مضمونها ومثاليتها، بل ويضعها في موضع الشبهة والانتهازية، ويوصم صاحبها بالجهل السياسي.

هذا الجهل السياسي الذي جعله هدفاً سهلا، ولقمة سائغة لكل من يمارس العمل السياسي في تركيا، حلفائه قبل أعدائه، الذين دشنوا حملة انتقاد واسعة لتصريحاته، وذهب البعض منهم إلى الحديث عن أن الوقت قد حان للتخلص من الرجل الذي انتهك النظام الأساسي لحزب أتاتورك، فيما اتهمه آخرون بالازدواجية في خطابه السياسي، فهو من جهة يسعى إلى المسامحة كما يقول بينما يقوم بطرد كل من يخالفه الرأي داخل الحزب، وتساءل هؤلاء هل سيتسامح كيليشدار أوغلو مع من رفضوا ترشحه للرئاسة؟ أو مع هؤلاء الذين طردهم من الحزب لأنهم رفضوا الوقوف إلى جواره ودعمه للاستمرار في رئاسة الحزب؟!

يعتقد كيليشدار أوغلو أن الترتيبات التي قام بها مؤخرا وعمليات الاستقطاب التي ضم بموجبها العديد من الأحزاب السياسية حتى تلك التي تخالف حزبه في الأيدولوجية التي ارتكز عليها منذ إنشائه حتى اليوم، بما في ذلك تحالفه مع حزب الشعوب الديمقراطي الذي يمثل الأكراد على الساحة السياسية، ما زالت غير كافية لضمان فوزه في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة سواء تمت في موعدها المحدد لها عام 2023 أو تم إجراؤها مبكراً وتحديداً في منتصف 2022، خصوصا وأن العديد من استطلاعات الرأي التي تجريها المراكز البحثية المتخصصة لا تزال تشير إلى تقدم العدالة والتنمية على الشعب الجمهوري بنسب تتراوح ما بين 5% و7% إذا أجريت الانتخابات اليوم.

لذا يسعى الرجل بكل قوة لتقليص هذا الفارق عبر محاولة استقطاب أصوات الإسلاميين والقوميين، وتحديداً هؤلاء الذي انشقوا عن القاعدة الانتخابية لحزبي العدالة والتنمية، والحركة القومية، وهي شريحة انتخابية واسعة يخشى كيليشدار أوغلو أن تذهب إلى أي من الأحزاب ذات التوجه المحافظ التي لا تزال ترفض الإنضمام إلى تحالفه مع حزب الجيد، ومن هذه الأحزاب حزب المستقبل بقيادة رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أغلو، وحزب التقدم والديمقراطية بزعامة علي باباجان، وحزب السعادة بزعامة تمل كرمال الله أوغلو، الذين لا يزالون يراوحون مكانهم، ولم يحددوا موقفهم النهائي بعد.

إذاً فإن الحل للخروج من هذه المعضلة -وفقا لرؤيته- هو التوجه مباشرة إلى هذه الشريحة من خلال استخدام لفظ المسامحة، وعفا الله عما سلف، وهو ما بدا واضحاً في كلمة الرجل الذي اعترف أن تلك المسامحة لن تصلح أخطاء الماضي، وما أكثرها، لكنها دون شك ستنقذ المستقبل! فعن أي مستقبل يتحدث، مستقبل تركيا أم مستقبله هو شخصيا؟

هل يسامح الإسلاميون والقوميون؟

وأيا كان هذا المستقبل الذي يقصده كيليشدار أوغلو، يبقى السؤال المنطقي هنا هل يمكن أن تثمر دعوة المسامحة فعلياً، ويقطف كمال كيليشدار أوغلو ثمارها، ويحقق انتصاراً كبيراً عجز زعماء الحزب السابقين له عن تحقيقه، هل يمكن أن يغفر الأتراك ما تعرضوا له من ظلم جراء السياسات المخزية ضد هوية المجتمع التركي التي انتهجها حزب الشعب الجمهوري بهدف الانسلاخ عن كل ما يربط تركيا الحديثة بتاريخها الإسلامي تقرباً لأوربا؟

هل يغفر الأتراك للشعب الجمهوري ما فرضه عليهم من سياسات التقشف، التي أدت إلى ظهور الطوابير الطويلة أمام المخابز، ومحال بيع المنتجات الغذائية، وارتفاع معدلات البطالة، والمصانع التي عملت بنصف طاقتها الإنتاجية، واختفاء الحريات الشخصية، وظهور العدالة الانتقائية. وسعيه جاهداً، رغم كل تلك المعاناة الاقتصادية، لمحاربة الهوية الإسلامية للدولة التركية عبر الكثير من القوانين الصارمة التي قام بسنها وتطبيقها رغم أنف المواطنين، الذين تعرض الكثير منهم للاعتقال والمحاكمة والاعدام فقط لتمسكهم بهويتهم الإسلامية.

هدم المساجد وبيعها

لقد غير نظام الحكم إلى جمهوري علماني، وإبطال العمل بالشريعة الإسلامية، ومنع كل مظهر يمت إلى الإسلام بصلة، وتحويل المدارس الإسلامية إلى مدارس علمانية، وإلغاء المحاكم الشرعية، وإحلال القوانين الأوربية عوضاً عن تلك المستمدة من الشريعة الإسلامية، فتمت الاستعانة بالقانون الجنائي الإيطالي، وقانون التجارة الألماني، والقانون المدني السويسري، ومُنع تعدد الزوجات واستبدال الزواج الشرعي بعقود الزواج المدني، وحلت القبعات الأوربية محل العمامة والطربوش، وفُرضت الأزياء الأوربية على الرجال والنساء على حد سواء، وحلت الحروف اللاتينية محل الأحرف العربية في الكتابة، وتم بناءً على ذلك ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية.

لم يكتف حزب الشعب الجمهوري بتلك التغييرات بل قام بمنع الآذان باللغة العربية، وأغلق جامع آيا صوفيا في وجه المصلين، وحوله إلى متحف، واعتقل رجال الدين الذين اعترضوا على تلك القرارات ومحاكمتهم وإعدام عدد منهم.

وعقب وفاة مصطفى كمال أتاتورك وتولي عصمت إينونو السلطة ورئاسة الحزب بعده، وفي قانون الموازنة العامة للدولة الذي صدر عام 1927 جاءت مادة تحت عنوان “مشكلة الجوامع في تركيا” وهي المادة التي استباحت المساجد والجوامع، حيث أكدت على ضرورة إغلاق وتدمير العديد منها، بحجة أن تركيا تمتلك منها ما يفيض عن حاجتها، ووفقا لتوصية تلك المادة تم تدمير الكثير من الجوامع التاريخية في العديد من المدن سواء تلك الواقعة على البحر الأسود أو في الأناضول وأضنة، وفي وسط تركيا وجنوبها.

بل واستخدم الحزب عددا من تلك المساجد كمخازن للدولة، فيما أغلق عددا آخر ومنع الصلاة فيها، ومنها مسجد السلطان علاء الدين كيكباد في مدينة شوروم، الذي أراد حزب الشعب الجمهوري هدمه ولكن رفض سكان المدينة حال دون هدمه والاكتفاء بإغلاقه.

كما استخدم عدداً منها في المدن التركية كمقرات له، مثلما حدث مع مسجد “جوكسو” الذي بني بأمر من السلطانة مهري شاه زوجة السلطان مصطفى الثالث، وجامع “علي ده ده” في أضنة، واستخدم عددا آخر من المساجد كإصطبلات للخيول، ومعتقلات وسجون، وهي السياسة التي بررها كمال كيليشدار أوغلو منذ عدة سنوات بعدم وجود أماكن أخرى!

وتجرأ قادة الحزب في أربعينيات القرن التاسع عشر على عرض الكثير من المساجد والجوامع للبيع، وهو ما حدث لجامع “كاتب شلبي” في منطقة تقسيم، الذي بيع وتم إنشاء مبني سكني من ثلاثة طوابق مكانه، وغيره من الجوامع الأخرى التي لاقت نفس المصير!

كيليشدار أوغلو يمد يدا تقطر دما

ورغم ذلك الكم الهائل من الممارسات الفاشية والقرارات الديكتاتورية، إلا أن كيليشدار أوغلو خص أحداث معينة في حديثه عن المصالحة التي يرغب بها، مشيرا إلى رغبته في تضميد الجراح التي تسبب في إعادة فتحها منفذوا انقلاب 28 فبراير/شباط 1997، وفي المصالحة مع المحجبات اللاتي تم إجبارهن على دخول غرف الإقناع من أجل خلغ حجابهن، وحرمان من رفضن منهن المثول لذلك من استكمال دراستهن الجامعية! والمصافحة مع ضحايا مجزرتي سيواس 1993 ومرعش 1978، فهل يمد الإسلاميون والقوميون يدهم لمصافحة يد كيليشدار أوغلو الممدوة لهم باسم حزب الشعب الجمهوري وهي تقطر دماء أبنائهم وأقاربهم الذين راحوا ضحايا تمسكهم بهويتهم ورفضهم لسياسات التغريب! وإذا وافق الاسلاميون والقوميون على التسامح مع حزب الشعب الجمهوري عن الأحداث التي خصها زعيمه بالحديث، فماذا عن باقي المظالم التي تجاهلها وأسقطها من حسابات مصالحته المزعومة؟!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان