سؤال “الديمقراطية” الحائر بين القادة والشعوب
(1)
النظام العالمي الحالي في حالة ترقب واستقطاب، بسبب الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين والتي تلوح في الأفق، الحجج التي تروج لها أمريكا لموقفها المعادي لصعود الصين الاقتصادي والعسكري لا يرقى لقوة ومنطقية الحرب الباردة التي اندلعت بين المعسكر الغربي والشرقي في القرن العشرين وانتهت بسقوط الاتحاد السوفيتي.
في الماضي كان الغرب، وفى مقدمته الولايات المتحدة، حلماً لجميع شعوب العالم، فهو مجتمع الحرية والديمقراطية والرفاهة والوفرة، كان أسلوب الحياة الغربي يناقض الموجود في بلدان المعسكر الشرقي الرازح تحت الحكم الشمولي الشيوعي والذي كان محروما من حريته وكل وسائل الرفاهية وملذات الحياة البسيطة.
لكن الآن الصين تعيش نفس أسلوب الحياة الغربية، وتعمل بكفاءة وسرعة في محاربة الفقر وتحقيق مجتمع الرفاهة لسكانها البالغين نحو مليار و300 مليون وهي تجربة لم تحظَ بها دولة أخرى في العالم بهذا التعداد السكاني.
(2)
أمريكا تسعى لترويج مفهوم “الديمقراطية وحقوق الإنسان” كقيم مميزة أمام النظم المستبدة في الصين وروسيا على وجه الخصوص، قمة الديمقراطية التي ستعقدها افتراضيا إدارة الرئيس الأمريكي بايدن فى 9 و10 ديسمبر المقبل تسعى إلى البرهنة على أن الديمقراطية ما زالت تعمل، وأنها قادرة على تحسين حياة الناس بطرق ملموسة، لكن ربط الديمقراطية بالتنمية والرفاهية لم يعد حاضرا في الأذهان كما كان في القرن الماضي إبان الحرب الباردة السابقة.
في دراسة نشرت في (هارفارد بيزنس ريفيو) عدد مايو- يونيو 2021 رصد كل من: “رنا ميتر” أستاذة تاريخ وسياسة الصين الحديثة بجامعة أكسفورد، و”إلسبيث جونسون” مدير الإستراتيجية السابق للأعمال الآسيوية في إحدى شركات التكنولوجيا، عدداً من المفاهيم الغربية حول الصين واعتبراها أساطير خادعة، ومنها: أن الاقتصاد والديمقراطية وجهان لعملة واحدة. وذكر الكاتبان أن النمو في الصين جاء في سياق حكم شيوعي شمولي مستبد، مما يشير إلى أن الديمقراطية والنمو لا يعتمدان بشكل حتمي على بعضهما البعض. في الواقع، يعتقد العديد من الصينيين أن الإنجازات الاقتصادية لبلادهم والحد من الفقر على نطاق واسع، والاستثمار الضخم في البنية التحتية، والتنمية كمبتكر تقني عالمي المستوى قد تحققت بسبب، وليس على الرغم من، الشكل الاستبدادي للحكم في الصين. كما كشف استطلاع أجراه مركز (آش للحكم الديمقراطي والابتكار) بجامعة هارفارد في يوليو 2020، عن رضا المواطنين الصينيين عن حكومتهم بنسبة 95%.
(3)
الأمر لا يقتصر على رأى المواطن الصيني، فلقد أظهر استطلاع كبير أجراه المجلس الأوربي للعلاقات الخارجية في 12 دولة عضو في الاتحاد الأوربي في مايو ويونيو من هذا العام أن معظم المواطنين الأوربيين يميلون إلى الاتفاق على عودة الحرب الباردة بين أمريكا والصين وروسيا، لكن معظم الأوربيين لا يشعرون أن دولهم جزء من الحرب الباردة الجديدة وخاصة مع الصين.
معظم الأوربيين لا يعتقدون أن التمييز بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية هو الذي يبني العالم. تعتقد النسبة الأكبر من المشاركين في الاستطلاع أن طبيعة نظام سياسي معين لا تفسر بشكل كافٍ فشل الحكومات أو نجاحها في التعامل مع الوباء أو تغير المناخ على سبيل المثال. حتى فيما يتعلق بمسألة المساهمة في الأمن العالمي، يوافق 50% فقط على أن الديمقراطيات أكثر فاعلية من الأنظمة الاستبدادية، بينما يعتقد 36% أن نوع النظام لا يحدث فرقًا.
في أبريل من هذا العام أظهر استطلاع للرأي أن الأوربيين يرون أن عالماً من “الشركاء الضروريين” سيكون بديلا أفضل من التحالفات الثابتة المستقرة. وكانت النتيجة الأكثر لفتًا للانتباه هي أن الحصة الأكبر من الأوروبيين (44%) يرون أن الولايات المتحدة شريكا ضروريًا وليس حليفًا يشارك مصالح وقيم أوربا، في الوقت نفسه اعتبرت نسبة كبيرة من المشاركين الأوروبيين الصين (36%) وروسيا (35 %) شريكين ضروريين، في حين وجد 12% فقط من المشتركين في الاستطلاع الصين خصمًا.
(4)
أمريكا لم تقدم نموذجا يحتذى به في فرض تجربتها الديمقراطية، غزوها أفغانستان والعراق بحجة تخليص شعب البلدين والعالم من أنظمة مستبدة تتعاون مع الإرهاب وتهدد السلم العالمي، جاءت بنتائج مخيبة لجميع التوقعات، وفشلت فشلا ذريعا في البلدين، وبدلا من تحسين حياة الشعوب تركت البلدين بعد سنوات غارقتين في الفوضى والفقر والعوز.
وعلى النقيض من هذا النموذج السلبي، قدمت الصين نموذجا ناجحا في تعاملها مع جائحة كورونا، واستطاع نظامها الشمولي المركزي التعامل بفاعلية والحد من انتشار الوباء وتقديم الدعم الصحي اللازم لجميع الصينيين، في حين ظهر فشل النظام الأمريكي تحت حكم “ترمب” في تقديم الرعاية الصحية الواجبة للشعب الأمريكي مما أدى لتفشى المرض وارتفاع أعداد الوفيات بسبب الجائحة.
(5)
محاولة أمريكا تقديم الديمقراطية والقيم الغربية كإجابة نموذجية لمشاكل العالم على غرار فوكوياما ونظرية نهاية التاريخ، لم يعد مبهراً ولا مقنعاً، فالنظام العالمي الحالي الذي تهيمن عليه أمريكا به ثقوب كثيرة، الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا، والشعوب تئن من وطأة النيوليبرالية وتشعر بغياب العدالة والتكافل وتعاني من عدم احترام الدول العظمى للقوانين والمواثيق الدولية وتخريب الكوكب.
العالم لا يحتاج مزيداً من المنافسة والاستقطاب تحت مسميات لا تخدم الشعوب بقدر ما تخدم ساسة الدول في صراعهم المحموم للهيمنة ومد النفوذ والاستيلاء على المزيد من ثروات الدول النامية التي تدور في فلكهم. العالم يحتاج قواعد جديدة للتعاون يخرج الجميع منها فائزا فالخسارة تولد المرارة، كما يجب التفكير في نجاح النظريات السياسية وفق معايير عدة من بينها الوسائل المتبعة وأيضا النتائج المتحققة، على سبيل المثال الانقلاب العسكري الذي قام به “الفريق عبد الفتاح البرهان” في السودان ليس فقط مذموما لأنه انقلاب على الديمقراطية ومدنية الدولة، لكن لأن الانقلابات العسكرية في العالم على وجه العموم وأفريقيا على وجه الخصوص لم تنجح في تحسين حياة الشعوب وتحقيق التنمية واستقلالية القرار السياسي، بل كانت مجرد استبدال طبقة حاكمة بأخرى بقوة السلاح، مع استمرار معاناة الناس وفساد الحكم.
(6)
شعوب العالم تحتاج إلى قادة مخلصين للقيم والمبادئ الإنسانية الحقيقية وليس قادة نفعيين لا يفكرون إلا في مصلحة بلادهم دون غيرها من دول العالم، سواء في ذلك الجانب الأمريكي أو الصيني وإلا ستكون النتائج كارثية كما توقع كتاب “2034: رواية من الحرب العالمية التالية”، والذي توقع فيا المؤلفان الأميرال “جيمس ستافريديس” والكاتب “إليوت أكرمان” نشوب حرب نووية بين البلدين.