الغربة.. خروج الروح من الجسد

لا أصعب من خروج الإنسان من وطنه. يتصور بعضنا أن مجرد قطع تذكرة السفر هو انتهاء غربته داخل وطنه، إلى مكان أكثر رحابة واتساعا يستطيع أن يتنفس فيه كما يشاء.

يظن البعض منا -وبعض الظن إثم- أن ما نعانيه في المدن والشوارع والحارات الضيقة والمساكن التي أنهكتها السنون، شيء لا يمكن تحمله، والحل هو هذا الخروج من الضيق إلى متسع بلاد غريبة!

نعم يعاني بعضنا في أوطانه الكثير، لكن معاناة الغربة أكثر وطأة على هؤلاء الذين يضيقون بالوطن ومشاكله وضيق عيشه، خاصة عندما تتذكر منزلك والشارع الذي عشت فيه عمراً طويلاً، فأنت تترك وراءك كل أحلام الصبا وطموحات الشباب واندفاعه.

عندما تغادر المدينة التي خلتها يوماً مدينة أحلامك الكبيرة، تغادر في لحظة غائمة لا تدركها إلا حين تشعر بهذه المسافة البعيدة بينك وبينها، مسافة هي العمر والأيام والذكريات والأحلام.

وأنت قابع في بلد الغربة تكتوي بنيران الحرارة أو نيران البرودة- كلاهما سواء- أو كنت في جنوب الكرة الأرضية، أو في شمالها فتلك النيران داخلك، تستطيع أن تتغلب على الطقس بارداً أو حاراً باستخدام آلات التبريد أو التدفئة، لكن الحقيقة أنك أشعلت النار حين خطوت إلى سلم الطائرة، ووضعت أمتعتك على حزام الحقائب في مطار الوطن أو مطار الأرض الجديدة.

العودة

أصدقاء كثر لم يتحملوا هذه النيران المشتعلة في جوف قلوبهم، عادوا إلى الوطن الذي يضيق كل يوم بأبنائه الحالمين.

أكاديمي عربي يعود من غربته التي اختارها مكرها منذ سنوات إلى وطنه الأم، رغم ما يدركه من المعاناة التي سيلاقيها، لكنه يحاول أن يسترد الروح، التي غادرته منذ سنوات بعيدة حينما اُحتل وطنه.

نعم الخروج من الوطن هو خروج الروح من الجسد، فها أنت جالس في غرفة باردة، تعود بالذاكرة لأيام الوطن، تشتاق إلى أهله وصحبته ورفاقه.. تشعر أن بينك وبينه الآلاف من الأميال، وبينك وبين إخوانك وأصحابك آلاف السنوات، سراب هُم، وسراب تلك الشوارع والمدن التي لا تستطيع الإمساك بها كأنهم رحلوا!

في لحظة أخرى قرر إعلامي كبير أن يحط بحقائبه التي كانت لا تزال شبه مغلقة في وطن يستعيد به نفسه مهما كلفه الأمر، وتحمل تبعات قراره، لكنه حاول أن يسترد روحه التي غابت منذ سنوات ترحاله القريبة.

وما بين الحالتين نقف نحن أبناء الوطن في الغربة، حائرين نتطلع إلى نفس ونمسة هواء في وطننا الأم، نحاول أن نتوازن في أحلام العودة القريبة، وبينما نحن كذلك في حالة تيه بعيداً عن تلك المدن والشوارع والحارات والمساكن الضيقة، تأتينا تباعا حكايات لأصدقاء آخرين يبحثون عن طريق الغربة، ولا نملك أن نقول لهم: لا، ولا نستطيع أن نقول لهم نعم، هيا إلى غربتكم الجديدة ولتبحثوا معنا عن نفس، ربما نجده سوياً، نحن ندرك أنه هناك، في تلك الأرض التي تضيق بأهلها.

حالات هاجرت

أكثر من أربع حالات خلال أيام قليله تحدثت معي عن رحلة الهجرة إلى الشمال، أو ربما الجنوب.. أما أغرب ما في تلك الحالات أنهم جميعا تخطوا سن الخمسين من أعمارهم، فلماذا صار الوطن يضيق بكباره وشيوخه؟

هؤلاء الذين ذهب منهم العمر حالمين بوطن أكثر براحا، وأعز عيشا، يتسع لراحتهم حين يمضي بهم العمر، فإذا بهذا الوطن يطارد أحلامهم ويكسر أزهارهم، يجبرهم على البحث عن متنفس جديد.

الملمح الثاني لهؤلاء الباحثين عن الخروج من الوطن أنهم جميعا أصحاب خبرات كبيرة، ومنهم أصحاب مواهب حقيقة صحفيا نابها، كان له طموحه في شبابه كان يمكن أن يعمل في كبريات الصحف، في أماكن كثيرة لكن لأنه صاحب قيم ومبدأ، رفض أن يتماشى مع قانون السوق الإعلامي الإعلاني، فقد حوصر في رزقه وصار لا يستطيع العيش.

شاعر كبير له إبداعه الخاص جداً، ويمكن أن تعده من أهم شعراء جيله، ضاقت عليه دنياه فقد تغيرت ملامح سوق الدراما والغناء، وصارت الكلمة الصادقة والحقيقية المعبرة عن الناس والمشاعر لا مكان لها.

مش جاي ألومك على اللي فات

ولاجاي أصحّي الذكريات

لكني بحتاجلك ساعات

لما الشتا يدق البيان..

صديقان سينمائيان: كنا نحلم معهم بسينما جديدة، أفكار جديدة وإبداع حر، كانا في شبابهما يشار لمواهبهما بالبنان بين أبناء الجيل، رفضا ما يقدم، رغم العروض الهائلة داخل الوطن وخارجه، والآن بعد أن تخطيا الخامسة والخمسين، يبحثان عن وسيلة للعيش ولا سبيل إلا المهجر.

مفاجأة كبرى: أكاديمي كبير، له باع طويل في دراساته الأكاديمية، لا يستطيع أن يعيش عيشة كريمة، بعد أكثر من أربعين مؤلفا أكاديميا، لا يجد من ينشر كتبه ولا يستطيع أن يعيش عيشة كريمة، وإن حاول أن يقول رأيه ويعلنه، يجد مصير أستاذ الإعلام الدكتور أيمن منصور ندا أمامه.. الكثير والكثير من الحالات تتكرر يوميا، نريد الخروج .. ضاق الوطن علينا لا نستطيع العيش لا نستطيع الكلام.

ممنوع من الكلام

ممنوع من الغنا

ممنوع من الاشتياق

ممنوع من الابتسام

ممنوع من السفر

وكل يوم أحبك تزيد الممنوعات

وكل يوم ها أحبك أكتر من اللي فات..

هل نستطيع أن نصل إلى إجابة عن تلك الأسئلة؟
هل نستطيع أن نقول لهم بأعلى صوت: إن مكان عشاق الوطن في أوطانهم، وإن ضاقت فإن السعي إلى اتساع الوطن لأحلامنا مهما كلفنا؟
نحن الساعين للعدل والحرية والسيادة والعدالة، أقل كثيرا جدا من غرف الغربة الباردة.

آه يا بلاد يا غريبة

عدوة ولا حبيبة

في الليل تصحى عيوني

وعيونك مش قريبة

بلاد ما اعرفش ناسها

ولا عارفاني بيبانها

وخطاويا غريبة..

لماذا يضيق الوطن بأحلام أحبابه وعشاقه؟، لماذا يجبرهم على البحث عن ترحال في سنوات العمر الأخيرة؟ وهل كان جرم هؤلاء سوى محبته وعشقه وأحلام بالرقي والتقدم..

يا أصدقاء العمر: الخروج من الوطن لكم يمثل -وأعرف جوهركم الحقيقي- خروج الروح من الجسد.. فلنسع لوطن يتسع لنا جميعا خيرا من غربة باردة، في غرف باردة.

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان