مسرح يوسف إدريس.. بين تمرد الفرافير وبهلوانية الإعلام
بين مسرحية الفرافير التي قدمها يوسف إدريس عملا مسرحيا في 1964، ومسرحيته الأخيرة (البهلوان) 1983، عشرون عاما وبينهما خط تماس تمثل في التحول الذي يصيب الإنسان بتغير الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فبينما يناسب النص الأول فترة الستينيات مصرياً وعربياً وعالمياً، حيث مفاهيم التحرر والتمرد والبحث عن صيغة جديدة للعلاقة بين البشر وبين السلطة والشعب، تأتي المسرحية الأخيرة في أعمال إدريس، لتشابه الظرف الجديد في تغيراته الاقتصادية حيث الانفتاح الاقتصادي والعلاقات المصرية الأمريكية والعلاقات مع العدو، لتطرح فكرة العلاقة بين السلطة والإعلام، ونظرة السلطة للصحفيين والعالم نفسه (الشعب) .
تمرد الفرافير
تبدأ مسرحية الفرافير التي قدمها المسرح القومي المسرحي في عام كتابة إدريس لها بفكرة كسر الجدار الرابع، أو ما يطلق عليه المسرحيون نظرية بريخت (الكاتب الألماني برتولد بريخت)، أو المسرح الملحمي حيث لا فاصل بين خشبة المسرح والجمهور، فالكل ممثل ويبدأ المؤلف في تبرير ذلك، حيث إن الجميع يمثلون، فالجمهور يمثل في حياته الشخصية والممثل يمثل في الحالتين (الحياة والتمثيل)، فمن منا لا يمثل في مواقف حياتية مختلفة ومتنوعة، ويقرر المؤلف أنه لكي تبدا المسرحية فلا بد من سيد (السيد)، والفرفور (التابع ) ينفذ كل ما يأمر به السيد مهما كانت رغباته.
في لحظة الذروة يتمرد الفرفور على الدور المرسوم له، فهو لا يريد أن يظل هكذا مهما بلغ غباء أو تسلط السيد، ومهما بلغت قدرات الفرفور وتبدأ ثورته على واقعه “الفرافيري”، وتختل الأمور لحظات فلا أحد يقبل التغيير في الأدوار، منطق الفرفور أن القدرات تكون فيصل في مكانته، بينما منطق السيد أن هذه رؤية المؤلف، وأين المؤلف؟ اختفي، إذن فتتغير الأدوار حسب الكفاءات والخبرات.
كيف سنغير قواعد اللعبة إذن؟ تبدأ رحلة البحث عن قواعد جديدة للحياة تتنوع بين تبديل الأدوار، لكل من السيد والفرفور، ثم تعادلهم ليصبحوا سواسية، ثم فكرة كيفية استمرار المجتمع حال التعادلية، ثم فكرة الحرية المطلقة، أو الحرية المسؤولة، ثم فكرة نهاية الحياة نفسها حين الفشل في إيجاد صيغة للتعايش بين كل الممثلين للحياة أنها الحيرة حين البحث عن طريق للتعايش بين البشر.
يبحث إدريس عن تلك الصيغة للتعايش في مسرحيته الفرافير، صيغة لا تستعبد على الإطلاق ولا تَسّيد على الإطلاق، صيغة تقدر للإنسان قدراته ومواهبه، ولا تجعل العبودية إرثا، ولا السيادة إرثا.
إن قضية الحرية والمساواة والبحث عن العدالة إحدى القضايا التي أولاها إدريس في أغلب ما أبدعه منذ مجموعته القصصية الأولى (أرخص ليال) مرورا برواية الحرام أو النداهة أو حادثة شرف أو العسكري الأسود، كما كانت قضية إعمال التفكير والعقل هي قضيته الرئيسية.
لقد أصدر إدريس الملقب (تشيخوف العرب)، نسبة إلى القاص الروسي (أنطوان تشيخوف)، أكثر من 20 مجموعة قصصية، كما قد للمسرح كل من المخططين والفرافير البهلوان، وأصدر العديد من الكتب التي تضم المقالات الأدبية والسياسية والفكرية، منها كتاب “فقر الفكر وفكر الفقر”، و”أهمية أن نتثقف يا ناس” و”انطباعات مستفزة”، وفي كتابه “جبرتي الستينات”، وثق ما مر عليه من تحولات سياسية وفكرية خلال فترة الستينيات، وقد ذاعت إبداعات إدريس وقدم للسينما أفلام “الحرام” و”لا وقت للحب”، و”العيب”، و”قاع المدينة”.
عاش إدريس الذي ولد في 1929، وتوفي 1993، أحداثا كبرى، وشارك في مظاهراتها ضد الملكية أثناء دراسته الجامعية، إلى أحداث ثورة يوليو 1952، وشهد حروب مصر في الخمسينيات والستينيات، وحتى نصر أكتوبر، ثم الانفتاح الاقتصادي، والسلام مع إسرائيل، وعارض كل الحكام تقريبا، ولكن معركته الكبرى كانت مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، منذ اختلافه على حرب أكتوبر، وما أثارته مقالاته عن الحرب نفسها وأحداث الثغرة خلالها، حتى زيارة القدس ومعاهدة السلام التي رفضها تماما يوسف إدريس.
تخرج يوسف إدريس في كلية الطب، وتخصص بالطب النفسي، واستمر حتى عام 1960، حينما عمل صحفيا في جريدة الجمهورية، ولعل أبرز محطاته في تلك الفترة سفره إلى الجزائر، لينضم لثوار الجزائر عام 1961، وحارب معهم لمدة ستة أشهر وأصيب هناك، وقد منحته الجزائر وسام تقدير لدوره في ثورة الجزائر.
قدم إدريس للمسرح العربي ست مسرحيات هي (ملك القطن) 1957، (اللحظة الحرجة ) 1958، (الفرافير) 1964، (المهزلة الأرضية) 1966، و(البهلوان) 1983.
البهلوان والسيرك
في مسرحيته الأخيرة البهلوان، يدخل إدريس عالم الصحافة، كمدخل للعالم الإنساني حيث رئيس تحرير تتغير قيمه ومعاييره بين لحظة وأخرى، حسب التيار السائد، ولكي يستطيع أن يتوازن مع نفسه في الحياة، يعمل بهلوانا في السيرك المصري ليلا مختبئا وراء قناع، هو ذاته القناع الذي يكتب به اليوم عكس ما كتبه أمس، فهو خادم السلطة، ومن بيده السلطة في الجريدة أو في الدولة، أو في العالم، ينتقد الاتحاد السوفيتي اليوم، فإن تغيرت السياسة معه، وضد الولايات المتحدة فيحذف من كتاباته الاسم ويبدله إلى الاسم الآخر، وهكذا عندما يجيء رئيس مجلس إدارة، أو مسؤول إعلام، أو رئيس الدولة، فلا على المطبعة سوى تغيير الاسم ليمارس بهلوانيته مع كل جديد، محفوظ عجب الشهير في رواية بلاط صاحبة الجلالة لمصطفي أمين، فالجميع داخل المنظومة بهلوانات، وصاحب الجريدة، أو المسؤول هو صاحب السيرك ليلا، والكل يمارس بهلوانيته على الكل.
على الجانب الآخر لرئيس التحرير، هناك الصحفي الذي يرفض بهلوانية رئيس التحرير وجبن المحررين، وسيرك المسؤول مقابل الحفاظ على قيمه ومبادئه، يشعر رئيس التحرير تجاهه بالكراهية لأنه يحافظ على نفسه وقيمه، ويشعر المسؤول بتمرده على العبودية، وحالة البهلوان الذي يسير على كل الحبال والموجات فلا يجد أمامه إلا الإبلاغ عنه ليسجن، بينما يقايض البهلوان الرئيسي (رئيس التحرير) على كل شيء فيبيعه له مقابل الاستمرار، لكن المسؤول يقذف به خارج السيرك والصحيفة لأنه استنفد أغراضا منه، ويبحث عن بهلوان جديد بينما يبحث البهلوان عن سيرك وصحيفة جديدة يمارس فيها بهلوانيته.