فصول من رحلتي إلى اليمن السعيد (2)
انتقلنا إلى مقر إدارة المعاهد العلمية، وكان محسن خبيرا بها، كانت الجموع غفيرة نسبيًا، وسحنات الوجوه متنوعة، ويغلب عليها التّعب والوهن؛ فقد أرهقتهم الحياة.
فهذا أُخرج من سوريا وترعرع في العراق، وها هو اليوم يطرق أبواب صنعاء، لعلها تفتح له أملا يكمل به ما تبقى من حياته التي بدأت تقضّ راحته قبل أن يستوي على سوقه، وذاك طرده ضيق العيش في مصر لأزهريته التي أصبحت تهمة لمن أراد أن تكون أزهريته لله وليس للسلطان، وليس بعيدًا عنهما (زول) يتصبّب عرقًا، ويمسح ببياض عمامته البيضاء عينيه من قهر الجوع الذي يهدّد أهله في سودان الخير، وآخر أرهقه تنطّع قادته وظلمهم، حتى أصبح العراقي يبحث عن ربع أو خمس مرتّب في صنعاء التي تأكل من (قاتها)، وكلنا قادمون من جراح الأمة التي ما تزال تثغب!
جئنا إلى اليمن لأننا سمعنا بأنه السعيد، وسعادته ليست في ماله وإنما في قناعته وأنَفته وكرمه؛ فاليمني يتقاسم معك جوعك! إنهم أهل قيم وشيم، يبادلون من يحبّهم بحبّ أكبر، ومن يكرههم بحذر أدنى، أما من يعاديهم فيواجهونه دون هوادة ولا يولّون الدُّبر، فهم أهل نخوة ونُصرة.
ساعدني محسن أيضًا في ترتيبات الموافقة على لمّ الشمل، وتوجّهت زوجتي بطلب الحصول على تأشيرة الدخول من السفارة اليمنية في بيروت، وكان لها ذلك
خبر محسن إدارة المعاهد وأحكم بناء شبكة علاقاته، ويعرف ماذا يفعل. وبعد دخول من هنا وخروج إلى هناك، تلألأ وجه محسن وقال: “خلاص هذا العقد!”.
عدنا بعد مدّة لنحاول أن يكون التعيين في أمانة العاصمة أو على الأقل في أحوازها غير البعيدة. سعى محسن وبذل جهده، وجاءني التعيين في قرية (بيت الأحمر) وهي إحدى قرى عزلة الربع الشرقي بمديرية سنحان وبني بهلول أكبر مديريات محافظة صنعاء، لا يتجاوز عدد سكان القرية وقتها 400 نسمة ولم يتجاوز 683 نسمة عام 2004، وهي مسقط رأس الرئيس علي عبد الله صالح.
يطل حصن عفاش من فوق التلة، حيث يقع في وسطه القصر الرئاسي، وهو البيت الذي وُلد فيه علي عبد الله صالح، وكانت المدرسة على الجانب الأيمن من الطريق القادم من صنعاء قبيل بلوغ تلة القصر.
بعد الحصول على العقد، ساعدني محسن أيضًا في ترتيبات الموافقة على لمّ الشمل، وتوجّهت زوجتي بطلب الحصول على تأشيرة الدخول من السفارة اليمنية في بيروت، وكان لها ذلك. أخبرتها أن نسوة اليمن يلبسن النقاب، ولا تكاد ترى امرأة من دون نقاب إلا نادرًا وفقط في بعض الدوائر الرسمية العليا وقتها، وهن قليل؛ فقالت: “عشت في الكويت وأعلم عادات وتقاليد الخليج في عمومه”.
اشتريت ما يحجب وجه زهرتي، فهي العطر الذي أتعطّر به في غربتي، والسّند الذي زادني صبرا ومصابرة، وقوّتي في يومي، وسلاحي الذي أقاوم به بطش مهجري، فلم تعد للحياة معنى بدونها.
اشتدّ بي الشوق، وكابدت جمر البُعد في شوارع صنعاء، لأكون حارسها فيها. فكلما رأيت حجرًا في الطريق، أبعدته خشية عثرتها. وتفحّصت بنايات صنعاء وأزقّتها وحدائقها التي شرب ماءها (القات) فلم تعد تزهر. كنت أسابق الزمن حتى تكون معرفتي كاملة بالطرق والأماكن السياحية ومحطات وسائل النقل إليها قبل وصولها.
بدأت أفكّك خريطة أحيائها وبعضًا من معالمها وشوارعها الأساسية، وبدأت بوسط العاصمة ثم باب اليمن وهو معلم تاريخي وسياحي مشهور يتجاوز عمره أكثر من ألف عام، حيث يعد المدخل الأساسي لمدينة صنعاء القديمة من الجهة الجنوبية، وخبرت مواقع أحياء السبعين، والصافية، والثورة، والحصبة، والتلفزيون، والقاع، والتحرير والدائري.. واخترت لها فندقا لنقضي فيه ليلتنا الأولى حتى نكمل إجراءات تأجير البيت.
اخترت لها غطاء وجه يليق بنضارة وجهها البهي، وأنا أدقّق في ملمسه خشية خشونته، أو نتوءة بعض خيوطه وتعقّدها، كي لا تخدش بهاءها، وقد علمتْ بأنني صحراوي الهوى، إذا دخل في الحب، دخل كلّه، وأصبحت هي هو، وإذا كره، خرج كلّه ويتلبّسه الكره حتى أخمص قدميه. والعناد خصيصة مرزوقية، وعنزة ولو طارت؛ فالعناد حتى في الحب، وما غلبتني فيه، بل العناد الحقيقي في الحب.
كان الغطاء سهلا لباسه، وتربطه بطريقة اللاصق على رأسها، ويبقي لها إمكانية النظر من خلال شبك أمام العينين. خشيت على عينيها من هذا الشبك، الذي جُعل لتبصرني منها عندما نكون في شوارع صنعاء، ولأعرف ملامحها تعبا أو إرهاقا.
واخترت لها اللون الأسود، فمن عادات نسوة اليمن كلهن التوشّح باللباس الأسود من رأس المرأة حتى أخمص قدميها، ولعل ذلك ما يزال من أثر قصيدة مسكين الدارمي (ربيعة بن عامر التميمي)، الذي أنقذ بها تاجر الأخمرة العراقي في أسواق المدينة المنورة:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بناسك متعبّد؟
فاللباس الأسود هو المعتمد عند نسوة اليمن، عندما يخرجن من المنزل؛ فكأن نسوة اليمن يحاكين نسوة المدينة بعد سماع قصيدة الدارمي، وتغنّى بها الفنان العراق ناظم الغزالي بصوته الشجي، فأضاف إلى سحر الكلام سحر الأداء.
استقبلتها وألبستها القطعة الأمامية التي تخفي ملامح وجهها، دون أن يلاحظ أحد، وخرجنا وكأنها يمنية أصيلة منذ أن ولدتها أمها.
حرصت أن أستقبلها في أول ما أستطيع بلوغه من أركان المطار، لأخفي ملامح وجهها في أسرع وقت ممكن قبل خروجها من البوابة حيث يتجمّع الناس، فعادة اللباس هنا تمنعنا من النظر في وجوه النساء، فحملت معي هذا العرف لأعاملهم بالمثل، وأنا الصحراوي الغيور، إذا أمسكته غيرته يفسد أكثر مما يصلح، لذلك غلّقت على نفسي الغيورة أبواب غيرتها، بمنع العيون من جرحها وجرحي، وكان لي ذلك فاستقبلتها واحتضنتها بسرعة وألبستها القطعة الأمامية التي تخفي ملامح وجهها دون أن يلاحظ أحد، وخرجنا وكأنها يمنية أصيلة منذ أن ولدتها أمها.
اختلطت في ذهني الصور، وهي تستعير تشبيه عبد العزيز المقالح لصنعاء بالمرأة، وقد جمعتُ بين حضن صنعاء وحضن الحبيب؛ فكأن صنعاء كلها تجلَّت فيها:
كانت امرأة
هبطتْ من ثياب الندى
هطلت
ثم صارت قصيدة
هي عاصمةُ الروح
أبوابها سبعةٌ
والفراديس أبوابها سبعةٌ
كلُّ بابٍ يحقق أمنيةً للغريب
ومن أيّ بابٍ دخلتَ
سلامٌ عليك
سلامٌ على بلدةٍ
طيّبٌ ماؤها طيبٌ
في الشتاءات صحوٌ أليفُ
وفي الصيف قيظٌ خفيف
أقمنا ليلتنا الأولى في فندق متواضع في وسط مدينة صنعاء، وفي الغد أخذتها في زيارة إلى قرية (بيت الأحمر) لنعاين موقع المدرسة ونفكّك بعض طلاسم القرية التي ما تزال مجهولة لدينا، ونأخذ فكرة سريعة حولها، وقد سمعت أن بعض المدرسين المصريين يسكنون القرية، وهم في حظوة ومقام مبجّل، وكيف لا وهم يقومون بتعليم أبنائهم!
تبعد قرية (بيت الأحمر) عن صنعاء حوالي 40 كيلومترا، ووسائل النقل إليها ميسّرة نسبيا، فقد حظيت القرية بتعبيد الطريق المُوصل إليها من صنعاء، رغم بعض الحفر التي تُفسد على السائق تركيزه، ونشوة قيادته للسيارة.
رأينا البيوت موزّعة بين أجزاء القرية، متناثرة وغير مرتبطة ببعضها البعض وأغلبها غير مسوّرة. لا حياة في أزقّتها التي لا تشبه الأزقة، فهي ممرات ترابية، يعلو بين جوانبها بقايا حجرات لا ترى الطين بينها، فهل أكله الزمن؟ أو بخل به أصحابه؟ أو هو العجز والحاجة التي لا تخطئها العيون؟ فكل ما في اليمن يشير إلى الفوارق بين الحاجة وإشباعها! وكان انطباعنا الأول يلحّ علينا بالمكوث في صنعاء، وليس لي إلا الصبر وتحمّل أعباء السفر اليومي.
ذكّرتني البيوت بصورة ما تزال محفورة في الذاكرة من بيوتنا القديمة في دوز، عندما ترى جزء سور غير مكتمل، يرسم به صاحبه حدود مملكته، وفي زاوية تطل حُجرة أو حُجرتين يتلقّفها الريح من كل جانب. يشك القادم من كوكب غير كوكب اليمن، أن ما يشاهده كأنه أنقاض بنايات نتيجة حروب؛ فالبيوت غير مستوية على سوقها كتلك التي نشاهدها في صنعاء، فهذا عالم غير عالم المدينة، وناسها ليسوا كناس المدينة، لا ترى رجلا إلا وحاملا لسلاحه! وتلك تُعدّ من زينة الرجال في أعرافهم.
تأتي كل يوم سيارة الجيش محمّلة بخبز الكُدم، ذلك الخبز العجيب، فإذا كان طازجا فله طعم طيّب، ومذاق لذيذ، وصحي فهو من القمح الصّلب، أما إذا مرّ عليه وقت ففي طعمه قليل من الحموضة تمنحه مذاقا خاصا للجائعين، عندما نلاقي السيارة يأخذ كل واحد منا بعض الحبّات؛ لتكون لنا زادًا في وقت الراحة.
في وقت الراحة الكبرى لا يعود الطلاب إلى منازلهم وإنما ينزوون في الفضاءات المفتوحة قرب المدرسة، والمدرسة كلها في فضاء مفتوح، وكل مجموعة تجلس بجانب كومة من الحجر أو عشبة كبيرة، تذكّرني بصحراء دوز، ولكن تغلب الحجارة على أرضيتها لكثرة الجبال. ومن العادات التي أول ما رأيتها في اليمن أن الطلاب يجلبون معهم لتناول لُمْجَةِ الظهر خبز الكُدم وحليب في قنينة ممزوجة بقطع صغيرة من الفلفل الحار، فيعطيه طعما لذيذا، لم أذقه إلا في اليمن، وكان بعض طلابنا يجود علينا أحيانًا منه، فتنعش معه الرّوح، ونحن الذين لا يتذوّقون الأكل إلا بالفلفل.
ومن أشهر أنواع الحلويات التي لا تفارق الموائد اليمنية (بِنْت الصَّحْن)، والتي أحببت مذاقها كثيرا، وما يزال في النفس منها حتى اليوم، هو فطير بالسمن والعسل، تتكون من طبقات عدة من رقائق العجين، تُحَضَّر من الدقيق، البيض، السمن، الخميرة، الملح والسكر وتزيّن عادة بالحبّة السوداء لبركتها، وتُسقى بالعسل، ويختمون بها أكلهم.
وكم من منشد ومسرحي ومذيع اكتشفته الإذاعة الصباحية! ويقال إن محمد قحطان أول ممثل مسرحي في اليمن، كان ظهوره على مسرح المعاهد العلمية
يبدأ اليمني غداءه بالسلته وهي أكلة يمنية شعبية تتكوّن من الحلبة المطحونة والمرق كأشياء أساسية، ويضاف لها أحيانا لحم مفروم أو بعض أنواع الحبوب، وكأنها تحاكي دور الشُّربة أو الحريرة في المغرب العربي؛ فكل وجبة غداء لا بد من صحن سلته!
ويقال إنه بالسلته سَلِم الجسد اليمني من العلل والأمراض، وذلك لما في الحلبة من الفوائد الكثيرة، في مقابل ما يضعونه في معدتهم من سموم القات المتغذي بالأسمدة الكيميائية، وعلاقة اليمني بالحلبة علاقة حميمية، فإضافة إلى السلته، فهم يستخدمون الحلبة كصَلَصة تؤكل مع الخبز أو المرق أو توضع فوق الأرز.
والوجبة الرئيسية طبعا هي الأرز واللحم، ويميل اليمنيون إلى أكل لحم الحيوان الصغير، فكم من رأس عجل تراه معلّقا على أبواب محلات بيع اللحم، تستغرب من صنيعهم، والأمر نفسه مع الجِمال وبقيّة الحيوانات، لذلك تشعر بطراوة عجيبة عند أكل اللحم في اليمن.
تفتتح المعاهد العلمية أسبوعها بفقرة الإذاعة الصباحية، وهي من إبداع طلابها، وتأخذ منا كمدرسين بعض الوقت للإعداد الجيد، وهذه الفقرة من الفقرات الثابتة في مفتتح الأسبوع الدراسي. قبيل نصف الساعة من انطلاق الدوام المدرسي، يصطف كل الطلاب في الساحة، ووجوههم تجاه مكتب الإدارة، في صفوف طولية، كل صف على حِده.
وتتداول الصفوف على تقديم برامج الإذاعة الصباحية، وفقراتها متنوعة تبدأ بتلاوة من آيات القرآن الكريم، ثم تنطلق إلى الأناشيد ومقاطع مسرحية وأخبار سياسية وفقرات ترفيهية، وتنتهي بالدعاء.
وكان لها أثر إيجابي كبير على الطلاب، فهي تمنحهم الثقة بالنفس بالوقوف أمام الجمهور، وفرصة لاكتشاف الطاقات والمهارات الكامنة، وكم من منشد ومسرحي ومذيع اكتشفته الإذاعة الصباحية! ويقال إن محمد قحطان أول ممثل مسرحي في اليمن، كان ظهوره على مسرح المعاهد العلمية -معهد تعز العلمي على وجه الخصوص- في أواخر سبعينيات القرن الماضي.
فالفكرة كانت ذكية ومفيدة، وفاتحة طريفة لكل أسبوع جديد.