كتالوج الانقلابات العسكرية في السودان

ليست هى المرة الأولى التي يستيقظ فيها الشارع السوداني على خبر محاولة انقلابية عسكرية، حدث ذلك عشرات المرات، بعضها تم إجهاضه في مهده، أو توارى من حدثتهم أنفسهم، فضلا عن محاولات أفلحت في الاستيلاء على السُلطة لأيام معدودة، ومن ثم ارتدت إلى عقبيها مدحورة، فلم تعد أي محاولة انقلابية تُدهش الناس حقاً، ولا تكتسب مصداقيتها إلا بعد أن تنجح.

الانقلاب العجيب

المحاولة الانقلابية الأخيرة، لنطلق عليها محاولة، فنحن سمعنا بها فقط ولم نشعر بها، أو نرها، كانت أشبه- بفقاعة صابون- سرعان ما تلاشت، وهي من أعجب الانقلابات، إذ لم تُطلق فيها رصاصة واحدة، وكانت يوم الثلاثاء بعد شروق الشمس، على غير العادة، لأن الانقلابات السودانية دائما تكون فجر الجمعة، لسهولة السيطرة على الوحدات العسكرية، ودائماً تكون مباغتة. أما هذه المرة فالجميع كان يعلم بها قبل حدوثها بأيام، وتسربت ساعة الصفر، حتى علم بها الجميع، الصحفيون الكَسالى وستات البيوت والرُعاة في البوادي القصية، بل والأعجب من ذلك، أن التخطيط والتنفيذ للمحاولة بدا متزامناً مع التخطيط والتنفيذ لإجهاضها!

محاولة الضابط الغامض

ولعل ما منح تلك العملية قوتها وخطورتها، هو تورط (سلاح المدرعات) فيها، وهو أقوى الأسلحة السودانية، يكاد يكون بمثابة الرهان الناجح، في تنفيذ الانقلابات وفي إجهاضها معاً، ويندر أن تفشل محاولة انقلابية على رأسها سلاح المدرعات، ولكن لسبب ما، وقبل إطلاق قذيفة واحدة، تم الإعلان عن السيطرة على المجموعة الانقلابية، في تمام الساعة العاشرة صباحاً، واستسلام قائدها اللواء عبد الباقي بكراوي، الضابط الغامض، والذي ليس له ميول سياسية واضحة، وكل ما عرفه عنه الناس اعتراضه الشجاع على توسع نفوذ قوات الدعم السريع، وغيرته على الجيش.

ومن جهة أخرى فهى أيضاً عملية أشبه بحركة التمرد والاحتجاج على أوضاع الجيش الداخلية، ورسالة في بريد البرهان وشركائه من القوى السياسية المتنافرة، تشي بتفجر الغضب الداخلي على اختطاف الدولة، وتجيرها لصالح مجموعة عِلمانية لديها ارتباطات بالخارج، وتوجهات غير وطنية.

ليس اللواء بكراوي وحده بالطبع، ولكن معظم ضباط وقادة الأسلحة السودانية لديهم اعتراضات على ضعف الأجور وتدهور الأوضاع المعيشية، وسيطرة قوات الدعم السريع، بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان حميدتي، وترسانته العسكرية، والمطالبة بدمجها في الجيش النظامي، لتجنب مخاطر وجود قوة عسكرية موازية، تدين بالولاء لجهة أُخرى، ما يتطلب، كضرورة حاسمة؛ توحيد القيادة والعقيدة العسكرية معاً.

الصراع العسكري المدني

فيما كشفت تداعيات المحاولة الانقلابية الأخيرة حجم الهوة العميقة بين المكون المدني والمكون العسكري، والصراع المكتوم حول إدارة الدولة، فبعدت بينهم الشقة، ولم يعد أحد منهم يثق في الطرف الآخر، يتربصون ويكيدون لبعض، لدرجة أن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك استعان بالبعثة الدولية لتحجيم قوة المكون العسكري، بشكلٍ أيضاً جعل من الفترة الانتقالية بمثابة العبء الثقيل على كاهل المواطن السوداني، كأنها صخرة جاثمة على الأنفاس، إلا على الذين يتمتعون بالمناصب وامتيازاتها، وأسفر عن حقيقة يصعب مواراتها، وهى أن الشراكة بين المكونين المدني والعسكري تمضي إلى حتفها، إن لم يكن اليوم، فهو ليس ببعيد، سيما وأن قوى الحرية والتغيير، تريد تسخير الجيش لحماية أجندتها الخفية، وحراسة مطامعها المفضوحة، وتقوم بتهديده بتحريك الشارع، وابتزازه بصور شهداء الثورة، متى رأت منه ما يحول بينها ومراميها.

خلايا في الجيش

الأجواء في السودان حالياً مهيئة تماماً لأيما تغيير، ليس بالضرورة أن تسبقه المارشات العسكرية، ولكن الأوضاع، عموماً، خرجت عن السيطرة، داخل العاصمة الخرطوم وفي ولايات الشرق، أزمة تلد أخرى، شح في الموارد وتفلتات أمنية، وغياب للعدالة، وإرهاق الناس بالغلاء والتضخّم  والجمارك من خلال رفع الدعم من دون حماية الشرائح الفقيرة، وتسخير مؤسسات الدولة لتصفية الحسابات السياسية، وفوق ذلك لا أحد يريد الانتخابات، يتحدثون عن الديمقراطية ولا يريدون الانتخابات، بدليل تمديد آجال الفترة الانتقالية لأربع سنوات، قابلة للتمدد مجدداً. فضلاً على أن الصراع في السودان على مر العصور، تركز حول السُلطة، وصار القصر الرئاسي، دائمًا هو الغاية التي تسعى لها كل القوى السياسية، أحيانًا عبر الحروب والتحالفات الخارجية والقبائل الساعية للمجد، وأحيانًا أخرى عبر الانقلابات العسكرية، سيما وأن معظم القوى السياسية لديهم خلايا نائمة داخل الجيش.

لا يتعلمون من التاريخ

بالعودة للتاريخ، ثمة وقائع إزاء لعبة السُلطة مثيرة للجدل، تستدعي مقولة جورج سانتيانا ” الذين لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم بتكراره”، فقد حصل السودان على استقلاله من بريطانيا في عام 1956، وتكونت حكومة ديمقراطية، لكنها سرعان ما سقطت تحت حذاء الجنرال إبراهيم عبود في نوفمبر/تشرين الثاني 1958، وصِفت بأنها عملية تسليم وتسلم، تورط فيها حزب الأمة، عبر الأميرلاي عبد الله خليل، واستمر عبود في الحكم حتى أطاحته ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964، وجاءت تجربة ديمقراطية ثانية لمدة خمسة أعوام، أجهز عليه جعفر نميري بدعم الحزب الشيوعي، ومكث نميري في السلطة 16 عاماً.
مرة أخرى عادت الديمقراطية بعد هبة أبريلية، انتصرت فيها الإرادة الشعبية لنحو أربعة أعوام، ولكن شيّعها الزعيم الراحل الشريف الهندي من داخل البرلمان بعبارة لاذعة وشهيرة ” هذه الديمقراطية لو شالها كلب مافي زول بقول ليه جر”، وقفز عليها عمرالبشير بدعم وتأييد الحركة الإسلامية، حتى رسخ في يقين البعض أن الديمقرطية في السودان تجربة عابرة، يتربص بها الجميع، بما فيها القوى السياسية نفسها.

ما فعله الديمقراطيون بالديمقراطية

نجح العسكر في الاستيلاء على السلطة ثلاث مرات، بنفس الكتالوج، وبتحريض الساسة، إذا خصمنا منها فترات الانتقال، المشير سوار الذهب، والفريق عبد الفتاح البرهان، فقد بقى فيها الجنرالات 53 عامًا، بينما تنعمنا بالديمقراطية لعقد واحد فقط، وبشكلٍ يمكن أن نجتر معه يأس أنصار التجربة القصيرة الحزينة، أي ما فعله الديمقراطيون بالديمقراطية، فهى أيضاً لم تكن تجربة سارة، والشاهد عبارة الشريف الهندي أعلاه، والصراع السياسي على جثة الوطن، والتأمر الخارجي على البلاد، من دون أن نتواصى على ميثاق يجمع شعثنا، على المدنية الحقة، ويحفظ للجيش مكانته واستقلاله .

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان