أين اختفت الحركة الإسلامية السودانية؟

بدلاً من أن يحاصرها الأعداء حاصرت نفسها.. لذلك لم يبق لها أثر واضح في “سودان ما بعد الثورة”

الترابي

تحتفل الحركة الإسلامية السودانية هذه الأيام بمرور 75 عامًا على تأسيسها، ترفع شعار “كلنا عطاء” وتخفض شعار “الإسلام هو الحل”، وتمارس في الوقت ذاته نوعًا من التقيّة السياسية والتخفي المَعيب، كما لو أنها غير موجودة بالأساس، أو أنها بالضرورة اختارت لسبب ما أن تتوارى مع حقبة الإنقاذ، التي خصمت منها الكثير دون شك، وانتصبت مثقلة بتجربة مريرة، حان الوقت لتقييمها وتقويمها، حتى لا تمضي فيها سنن الحركات البائدة، وتغمرها ذرات النسيان.

رمزية الترابي

لا شك أن الحركة الإسلامية السودانية أراد لها عرّابها الشيخ حسن الترابي -منذ ميلادها الثاني في مطلع الستينيات- أن تقاوم الابتلاءات، وتتجدد مع العصر حتى لا تتبدد، ومن ثم تنهض بالمجتمع وتقوده إلى الخلاص المنشود، إذ إن الترابي -ذلك الحاضر الغائب- مسكون بالقلق الخلاق، عصيّ على الاستلاب، وهو تقريبًا يكاد يكون القيادي السياسي الوحيد الذي لم يخرج من السودان، فظلّ رمزًا لعامّة الصفوة السودانية، يجسّد صمودها ورفضها للشمولية كما يجسّد تطلّعها إلى الإسلام الثوري الحيّ، وقد كسب معركته الأولى في تشكيل حركة إسلامية سودانية خالصة بعيدًا عن مقابض التنظيم الدولي.

وقد شهدت سنوات العقد الستين، التي وثّق لها المحبوب عبد السلام في كتابه (دائرة الضوء وخيوط الظلام)، ظهورَ نجم الترابي وصعوده، ولا سيّما بعد ثورة أكتوبر/ تشرين الأول 1964 التي انفجرت فيها بشدة صراعات الجماعة الإسلامية المتنازعة حول قيادة الترابي للحركة وهو في ريعان شبابه، إلا أن سنوات الاصطبار والمقاومة التالية صيّرته رمزًا قوميًّا وحسمت ولاء الإسلاميين له. وقد مضى على الحركة الإسلامية السودانية وقت طويل منذ أن تغلبت داخل صفها الملتزم على حيثيات الصراع بين مدرسة تؤمن بخوض غمار العمل العام توكُّلًا، وأخرى تؤمن بالتزكية لخاصّة صفها دون مخالطة الآخرين.

الافتتان بالسلطة

ولعلّ أخطر ما أوقعت فيه الحركة نفسها بعد رحيل الترابي أنها رهنت مصيرها للعقليات الأمنية والانقلابية، وافتتن جيلها الثاني بالسلطة والمال، وترك الشارع لقوى اليسار ودعاة التطبيع مع إسرائيل، فلم تجد بعد الترابي من يفكر لها أو يهبها مصابيح الطريق، حالها كحال طائفة مغلقة تزدهي بتاريخها ورجالها، و بدلًا من أن يحاصرها الأعداء الذين يكيدون لها حاصرت نفسها، ولذلك لم يبق لها أثر واضح في سودان ما بعد الثورة، على الأقل في الظاهر، حيث دمغها خصومها بالفساد، وطاردتها تلك الدعاية السوداء (أي كوز ندوسه دوس) بالإشارة إلى عبارة الإمام حسن البنا “الدين بحر ونحن كيزان نغرف منه”. وقد انتقلت أمانتها عبر أجيال مختلفة، من الشيخ الترابي إلى علي عثمان محمد طه، وإلى الزبير محمد الحسن الذي مات في سجون الحكومة الانتقالية، وأخيرًا آلت قيادتها إلى الأمين العام المكلّف علي كرتي، ذلك المتخفي عن الأنظار، الذي تمتاز شخصيته بنزعة سلطوية ومثابرة في مجال “البزنس” مع طغيان روح التدين الفردي. وقد عمل كرتي قائدًا للدفاع الشعبي، ومن ثم قائدًا للدبلوماسية، وكان قريبًا من الصف المجاهد، ويُحسب على ما عُرف بـ(صقور الإنقاذ)، لكنه -مع ذلك- قاد من داخل وزارة الخارجية الحوار مع الولايات المتحدة، وسعى إلى شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وابتدر سياسة خارجية متوازنة تعلي من المصالح.

مشروع واحد وتيارات مختلفة

الآن توجد ثلاثة أحزاب انسلّت من رحم الحركة الإسلامية السودانية الأم، حزب المؤتمر الشعبي الذي كوّنه الشيخ الترابي بعد المفاصلة الشهيرة مع البشير عام 1999، ويقوده الدكتور علي الحاج القابع حاليًّا في السجن بتهمة انقلاب الإنقاذ، وحركة الإصلاح الآن بقيادة الدكتور غازي صلاح الدين، والمؤتمر الوطني المعزول من السلطة بقيادة الدكتور إبراهيم غندور السجين أيضًا، إلى جانب العديد من التيارات الفكرية والشبابية الفاعلة، وجماعة الرصيف بأغلبيتها الصامتة، ويبدو -بل مؤكد- أنهم جميعهم على فكرة واحدة تؤمن بالمشروع الإسلامي، لكنهم ليسوا على قلب رجل واحد، فمنهم من يدعم العسكر، ومنهم من آمن بالثورة، ومنهم من اعتبر من تجارب التاريخ وصار منافحًا عن الشورى والحرية.

مدرسة علي كرتي

ولعلّ الأمين العام المكلّف علي كرتي أقرب إلى المدرسة التنظيمية التي تؤمن بالدولة وأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وهذا ربما جعله على صلة بقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، أو التنظيم الأمني إن وُجد، وقد رشحت معلومات كثيرة أن كرتي هو الممسك بزمام الأمور من وراء الكواليس، وليس بعيدًا عن ملف التغييرات التي جرت مؤخرًا في بنية السلطة الانتقالية، وقد أُوكِل له أمر تدبير شأن الحركة حتى قيام الانتخابات، لتعود عبر صناديق الاقتراع وتكتسب الشرعية المطلوبة.

اكتسى الرجل بهالة من الغموض والسطوة، يظهر في تسجيلات صوتية بين الحين والآخر، على طريقة أسامة بن لادن، يمازج فيها بين الروح الثورية الإسلامية وبث الأمل في النفوس، ويحظى بدعم قاعدة ليست قليلة من الشيوخ والشباب، جُلّهم على قطيعة مع الخطاب العلماني والتدخلات الخارجية، وقد ردد كرتي عبر أكثر من تسجيل أن الحركة الإسلامية اختارت في الفترة السابقة الصبر وأعلت صوت الحكمة رغم ما أصابها من عنت وتضييق وتشريد واعتقالات جائرة وتعدٍّ سافر على حقوقها، واتهم الحكومة الانتقالية بتجاوز كل القوانين، ووصف أعضاءَها بأنهم عملاء ومأجورون، وبدا حريصًا على تجنب المشاركة في المرحلة الانتقالية، لكنه -للمفارقة- مارس الصمت المُربك بعد بيان قائد الجيش في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، الذي وُصِف بالانقلابي، وقال البرهان إنه بقصد تصحيح مسار الثورة، ولم نعرف بعدُ رأي الأمين العام المكلّف للحركة الإسلامية على كرتي في ما جرى.

مواجهة التحديات

ورغم أن الحركة الإسلامية السودانية ليست محض تيار عقدي، وإنما حركة منفتحة ترفض الغلو والجمود، تجاهد في أرض متحركة لأوبة السياسة والثقافة لهدي الدين، لكنها اليوم في كبوة من أمرها، تتناوشها الخطوب ويتربّص بها خصومها، وليس أمامها من خيار سوى الخروج إلى الشارع، وتجديد عهدها وبيعتها، ومن ثم خوض معركتها المؤجلة، خاصّة أن الظروف اليوم ضدها ومعها في الوقت ذاته، إذ إن الإسلاميين أكثر قوة سياسية منظمة وأمضى عزيمة وأثرًا، لكن حركتهم تعرضت لخيانة بشعة من داخل صفها، أو بالتآمر الخارجي ممن يريد أن يستأصل شأفتها، كما أصابهم الإحباط، وبالتالي لا يوجد وقت ملائم أكثر من هذا لمواجهة تلك التحديات.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان