“الخواجة زكي”.. حرباء تتلوّن على مر الزمان!
صغارًا كنا حين كان الوطن كتلة واحدة ممتدة على اتساع رقعة الأمة العربية، كان الصراع في أذهاننا أطفالًا وصبية لا يمتد إلا للكيان الغاصب لأرضنا العربية فلسطين، كانت كل تطلعاتنا وأحلامنا تتعلق بالأرض العربية المحتلة، عندما شاهدته للمرة الأولى رأيته هذا العدو الذي يتلون، ويخترق الصفوف بين الأشقاء داخل أرض فلسطين ليأخذ قطعة أرض من هنا أو هناك ويضع قدمه عليها، يستخدم في ذلك أساليب الإغواء والسيطرة على الطرف الأضعف فينا، تلك الأساليب التي تبدأ بالغواية، وتنتهي باللهو وغسل العقول وبث الفُرقة بين الإخوة، بدعوى مَن الأقوى ومَن الأحق بالقيادة؟ وفي قرارة ذاته يبغي السيطرة على الجميع، تلك هي مشاهدتي الأولى للخواجة زكي.
خطا بنا العمر خارج أسوار الجامعة، وبينما كنا نبحث عن مسار للحياة، صدمنا صدّام حسين بغزو الكويت، في حين كان يتشكل في الأرض العربية مجموعة كيانات كنا نتصورها مقدمة لوحدة كبرى حسب أحلامنا الشبابية، جاءت خطوة صدّام لنفيق على عالم يأكل بعضه بعضًا، وتحولت الأحلام إلى كابوس، لتنقسم الأمة التي لم يمضِ كثير من الزمن على محاولة رأب الصدع الذي أحدثه الرئيس المصري أنور السادات بزيارة الكيان الصهيوني وتوقيع ما سُمّي “معاهدة السلام”. وتراءى أمامي الخواجة زكي مرة أخرى بالتفاصيل والأساليب ذاتها، وكأن رمضان خليفة مؤلف الشخصية في عام 1967، يكتبها من جديد. ومع الأيام والسنوات التي تلت غزو الكويت، كان الخواجة زكي يتمثل أمامي في شخصيات محددة (أمريكية وأوربية راجِعوا الأدوار) مارست الدور الأكبر في تمزيق جسد الأمة.
اقتربنا من مرحلة العقل والرجولة الناضجة، وجاءتنا الأيام بقمة أحلامنا، ثورة عربية في قلب الأمة، وثورات عربية على أطراف القلب في تونس واليمن وسوريا، ومضى بنا العمر عشر سنوات بعد الثورة، كان حضور الخواجة زكي كبيرًا، فهل كانت فرصته أم إنه حوّل لنا الحلم مرة أخرى إلى كابوس بنفس أسلوبه القديم؟ وكأن أمة العرب لا تقرأ التاريخ، وإن قرأت فهي لا تعي ما تقرأ، فمَن يا تُرى هذا الخواجة زكي الذي يخرج لي كلما تأملت حال الأمة عبر سنوات العمر؟
“الدخيل”.. فيلم رمضان خليفة ونور الدمرداش
في عام 1967 أنتجت المؤسسة المصرية العامة للسينما فيلمًا بعنوان (الدخيل) لمؤلف لم يحظَ بشهرة كبيرة في عالم السينما اسمه رمضان خليفة، حتى إنني أثناء مشاهدتي الفيلم للمرة السادسة أو السابعة لم يعلق الاسم بذهني، فذهبت أبحث عنه لأكمل هذا المقال عن الفيلم الذي يحاصرني منذ أكثر من عامين. قدّم رمضان خليفة للسينما فيلمين قصة وسيناريو وحوار، هما (الدخيل) و(رجل وحصان)، وثلاثة أفلام سيناريو وحوار أشهرها (العيب) عن قصة ليوسف إدريس و(نادية) قصة عميد الأدب العربي طه حسين، وقدّم أربع مسلسلات تلفزيونية ومسلسلًا إذاعيًّا واحدًا، تلك حصيلة كل ما أنتجه رمضان خليفة الذي ولِد عام 1921 وتوفي عام 1995، أربعة وسبعون عامًا لم يقدّم فيهم سوى عشرة أعمال (استزدت لإعجابي الشديد بفيلمه المتميز “الدخيل” الذي لم يأخذ نصيبه من الحظ والشهرة)، أما مخرج فيلم (الدخيل) نور الدمرداش فهو ملك الفيديو كما أطلِق عليه لتاريخه الطويل في إخراج الدراما التلفزيونية.
عودة إلى الخواجة زكي، وفي اعتقادي أنه بطل الفيلم الحقيقي، وسُمّي الفيلم على الدور الذي أداه ببراعة -كما هو دائمًا- الفنان المصري الكبير محمود المليجي، أما الممثلون صلاح قابيل وحمدي غيث وزيزي البدراوي وعبد الرحمن أبو زهرة وفاتن الشوباشي والمتمكنة ليلي فوزي فهم أبطال حقيقيون في هذا الفيلم، خاصة حمدي غيث وليلي فوزي وعبد الرحمن أبو زهرة.
يتجه الخواجة زكي إلى (عبد العليم علوان) ابن العمدة، شخصية مندفعة مغرورة كونه ابن الحاكم، لكنه لم يستكمل تعليمه (أمشير كما أطلق عليه نص الفيلم)، يشعر بأنه أقل من خطيبته الطبيبة ابنة شيخ البلد المجاور، يدرك زكي الطرف الأضعف الأكثر جهلًا والأقل وعيًا ليسيطر عليه، وبضع عليه آماله في تفتيت علاقات العائلتين أو البلدين أو القريتين اللتين يفصل بينما جسر، هو جسر المودة والتكامل والتواصل الإنساني كما نتابع في الفيلم، وكلما تقارب البلدان تكاملا في إصلاح الكوبري (الجسر الرابط بينهما)، وكلما تدخّل الخواجة زكي تعرّض الجسر للانهيار.
(فتنة) لك أن تقرأ الاسم كما شئت بالضمة على حرف الفاء أو بالكسرة، هي طريق زكي للسيطرة على عبد العليم من خلال الغواية أولًا (فهو الأضعف نفسيًّا) ثم بالتمجيد ثانيًا (هو الأحق بحب الناس لأنه ابن العمدة)، وتحت هذين الشعارين يُقنعاه بأنه لا يحتاج البلد الأخرى، ولا العائلة الأخرى، فهو الأقوى وصاحب المال والسلطة إذ لا كلمة إلا كلمته ولا حاكم سواه، (هل يتراءى أمامك شخص أو كيان معين حين تتأمل حال الثورة المصرية) ربما، وربما تجدها حكاية مسلية، حكاية الخواجة زكي وابنته فتنة.
يحاول زكي عن طريق فتنة أن يسيطر ويتملك، ويستدعي رفاقه وأهله وشيعته بعد أن اشترى جزءًا من الأرض، يبني عليها معسكرات لهم، ويحاول الإيقاع بين أهالي البلدين أو العائلتين، ويشتد الصراع الذي يقوده عبد العليم (أمشير شهر الرياح والزعابيب في التراث المصري). حاولوا مع الطرف الثاني المهندس صابر المحبوب من الناس والمتعلم والمثقف لكنهم فشلوا، فكان عليهم اللجوء إلى الفتن وإثارة المشكلات بين العائلتين، مرة بطلقات الرصاص وأخرى بإثارة مشاكل أخلاقية. هكذا تفتتت اللحمة وتعرّض الجسر للانهيار والترميم عن طريق (صابر) وأصبح لأهل الخواجة زكي معسكرات ومبانٍ شمال شرقي البلد، يمارسون فيها كل ما هو ضد عادات أهالي البلدين وتقاليدهم، من إثارة غرائز وأخلاقيات جديدة على الجميع، بعد أن اشتروا أراضي الفلاحين وممتلكاتهم عن طريق الربا ولعب القمار والإغواء والغواية، فالجميع يعاني الفقر والجهل والمرض.
هذا هو الحال كما أراه، لكنه ليس نهاية الفيلم، فنحن الآن ما قبل النهاية واقعًا، أما نهايات أفلام الستينيات والسبعينيات فكانت دائمًا نهاية للشر وانتصارًا للخير، ليفيق عبد العليم ويكتشف المؤامرة، ويتصالح مع صابر، ويتكاتف الجميع في مقاومة الخواجة زكي وعائلته وحشده الذين يمارسون الرذيلة في أرض طاهرة، ولا يسعى إلا لتحقيق مصالحه، فمتى تكون النهاية؟ حين نفيق جميعًا لندرك أن الخواجة زكي لعب على أطماع الجميع، وفتت العلاقات وهدم الجسور من أجل مصالح عائلته ومعسكره، فهل نراه أم أمامنا سنوات كما يعتقد كثيرون يعيشون بيننا واستسلموا للفكرة؟! كل يناير والأمة بخير إن أرادت.