الدعوة لمقاطعة أولمبياد بيجين.. لماذا ذهبت مع الريح؟!

استعدادات الصين للأولمبياد

تبدأ يوم الجمعة المقبل 4 فبراير/شباط أغرب مسابقة للأولمبياد أثارت جدلا قبل انطلاقها بفترة طويلة. فللمرة الأولى سيشهد العالم أولمبيادا بلا جمهور، ويوضع السكان المحيطون بالملاعب تحت الإقامة الجبرية، ويتابعه الصحفيون عبر شاشات داخلية، مع حظر لقائهم باللاعبين أو التقائهم بالناس في الشوارع وإلا تعرّضوا لغرامات باهظة أو السجن والطرد من البلاد. وحظرت اللجنة الأولمبية على اللاعبين والوفود حمل أي علامات أو لافتات تتعلق بحقوق الإنسان ومقاطعة مباريات. وأمرت دول وفودها بعدم اصطحاب هواتف نقالة أو أجهزة كمبيوتر تضعهم تحت سطوة الإنترنت المراقب بشدة من أجهزة الدولة. ودخلت الوفود التي تمكنت من الوصول إلى بيجين في فنادق معزولة، بعد التأكد من حصول القادمين على تطعيمات ضد وباء كوفيد-19، وسيمر الجميع بأكبر فقاعة في العالم صُنعت خصيصا لعزل اللاعبين والضيوف طبيا، أشبه بسفينة فضاء، قبل دخولهم الملاعب.

على جمر النار

فالصين التي طلبت تنظيم الحدث الدولي منذ عام 2015، بعد تنازل 6 دول أوربية لصالحها، لم تكن تتخيل في أسوأ توقعاتها أن جمعها الأولمبياد الشتوية والصيفية في مدينة واحدة للمرة الأولى في التاريخ، سيصنع كابوسا بهذا الحجم للأمة برمتها. مع ذلك تسير بيجين على جمر النار نحو إتمام الأولمبياد بأي ثمن.

لم تعد الأولمبياد أمنية شعب فقط، يأمل بعضه أن تفتح نوافذ جديدة للحريات، أو فرصة تواصل مع الشعوب، والتخلص من إجراءات أمنية قمعية زادت حدتها مع حالة الطوارئ التي فرضتها الحكومة منذ عامين مع ظهور وباء كورونا، جعلتهم يعيشون تحت الرقابة الدائمة وقيود أمنية تُفرض بصرامة في كل مكان وحين. فمع اقتراب حفل الافتتاح، وعودة انتشار الوباء بمتحوره الجديد “أوميكرون” فرضت الحكومة مزيدا من الضوابط في 14 مقاطعة، تمثل أكثر من نصف سكان الصين البالغ تعدادهم مليارا و400 مليون نسمة، في ما يسمّى تطبيق سياسة “صفر فيروس”. لا تسعى حكومة الصين فقط لإزالة “العار الوطني” الذي لحق بها في مراحل انتشار الوباء أول مرة في مدينة ووهان، والذي تأخرت في مواجهته حتى انتقل منها إلى أنحاء العالم، بل هناك ما هو أهم!

فالدولة تنفق مليارات الدولارات يوميا على مواجهة الوباء، واستغلت بذكاء احتفال الشعب بعيد القمر الذي يحل أول فبراير، وتصل فترة إجازاته إلى نحو أسبوعين، لتمدّها إلى شهر في بعض المدن والمدارس القريبة من الملاعب، حيث تتعاظم الفقاعة الطبية إلى حجم غير مسبوق وكأنها تحيط بأنحاء الصين. أصبح كل من في البلاد تحت الحصار، مع ذلك يعمل أعضاء النظام بحكومته وحزبه، وكثير من المواطنين الذين طعّمهم قادتهم بـ”جنون العظمة” على أن تؤسس الأولمبياد عصرا جديدا، في دولة يريد رئيسها أن يكون نجاحها وسيلته للبقاء في مقعده مدى الحياة.

بوابة الانتقال

فقد كانت أولمبياد بيجين الصيفية 2008، وراء تصعيد شي جين بينغ إلى رئاسة الدولة، حيث كان مسؤولا عن تنظيمها، فتحولت إلى حفل “خروج الصين” قوة اقتصادية للعالم بعد قرن ونصف القرن من الحروب والمجاعات. الآن يريد (شي) أن تكون الأولمبياد الشتوية بوابة انتقال الصين إلى عصر التحولات العظيمة بأن تكون “القوة الأولى في العالم” خلال سنوات محددة.

تجاهل رئيس الصين -خلال كلمته في 17 يناير/كانون الثاني أمام مؤتمر دافوس الافتراضي- الدعوات التي تقودها الولايات المتحدة وعدد من حلفائها، ومنظمات دولية تدافع عن حقوق الإنسان، وثقت انتهاكات نظامه للحريات بقسوة في هونغ كونغ والتبت وإبادة المسلمين الإيغور، وتهديده العسكري لتايوان، قائلا: إنها “كذبة القرن”. وسار (شي) على نهج الصينيين عندما يهاجمون شخصا أو جهة دون ذكر الاسم لفظا، عندما اشتكى مهاجمة واشنطن للصين، لدعوتها ممثلي الدول عدم حضور الأولمبياد، ووصفها بأنها” بلطجة مهينة” وعودة “لعقلية الحرب الباردة”. ورغم تحليه بالابتسامة الفاترة، ودعوته الدول إلى إبعاد الرياضة عن السياسة، فإن الحزب الذي يقوده شن حملة واسعة عبر أجهزة الإعلام الرسمية ووسائل التواصل الاجتماعي المحلية والدولية، شارك فيها إعلاميون وأساتذة جامعات دوليون وعرب، لمهاجمة كل من يدعو إلى مقاطعة الأولمبياد. كان مدهشا أن يتحول مسؤولو الحكومة -وعلى رأسهم دبلوماسيو الخارجية الصينية- إلى ناشطين عبر تويتر وفيسبوك، لتوجيه النقد والرد على المتظاهرين الذين امتلأت بهم ساحات كبرى في هوليوود ولندن وأستراليا وإندونيسيا واليابان، للتنديد بالإبادة الجماعية للإيغور وانتهاكات حقوق الإنسان في الصين.

لم تعد الصين قلقة بشأن ما تفعله الولايات المتحدة وحلفاؤها، فهم أكبر شركائها اقتصاديا، ولا تدقيق المجتمع الدولي في حقوق الإنسان الذي يسيل لعاب أنظمته ورجال أعماله طمعا في أسواقها وأموالها. فقد استغلت قدراتها الاقتصادية في استضافة أولمبياد بيجين 2008، بعد تقديمها وعودا لم تنفذ بتحسين أوضاع الحريات وحقوق الأقليات، فإذا بها تبدأ “عصر النهضة” وتستطيع مواجهة تلك الضغوط التي تمارسها بعض الدول والمجتمع المدني، وتفرض سطوتها برسائل ناعمة تارة، وبالتهديد بقوتها المالية والبشرية مرات عدة. وتحاول الصين بفخر أن تقدّم نموذجها في الحكم، بوصفه نظاما عالميا جديدا “نجح في ما فشلت فيه أنظمة ليبرالية عتيقة لمواجهة وباء كورونا، وأن تصبح النظام الأكثر قدرة عالميا في مواجهة تداعياته الاقتصادية، بما يحقق الرخاء والازدهار المشترك للجميع”.

أفضل الأحذية

يقدّم (شي) من خلال خطبه وكتبه -التي يدرّسونها إجباريا لجميع طلاب الصين حاليا- أفكارا عن الإدارة والحكم، قائلا: “أفضل الأحذية التي تناسب قدميك، وأفضل طريقة للحكم هي التي تحقق الرفاهية للشعوب”. بهذا التبسيط الغريب يصف الديمقراطية بأنها “ليست براءة اختراع”. مع ذلك يوجه حكومته والمهووسين بجنون العظمة بملاحقة الشركات التي عدّت العمل القسري للمسلمين الإيغور في معسكرات الاعتقال وزراعة القطن نوعا من السخرة، بملاحقتها ومنعها من التعامل مع السوق الصينية. ولم يتورع عن فرض حصار اقتصادي قاتل على دولة ليتوانيا الأوربية لمجرد أنها اعترفت مؤخرا باستقلالية جزيرة تايوان عن الصين الأم، ومطاردة كل من يعارض سياساته القمعية أو يبدي تذمرا من الإجراءات القاسية في مواجهة الوباء التي تسببت في إغلاق ملايين الشركات الصغيرة والمتوسطة، ليثبت للعالم أن نظامه قادر على الوصول في مكافحة الوباء إلى “نقطة الصفر”. هذا التحدي على وجهه الدقة لم يتحقق خلال عامين، بل تمحور الفيروس وانتشر من جديد في العاصمة بيجين ومدينة تيانجين القريبة منها والعاصمة القديمة شيآن وكثير من المدن المحيطة بملاعب الأولمبياد، فخضع نحو 20 مليون مواطن للحجر من جديد خلال الأسابيع الماضية. ويحذّر الخبيران الشهيران في الصحة العامة، حزقيال إيمانويل من جامعة بنسلفانيا وزميله مايكل أوسترهولم من جامعة مينسوتا في حوار مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية الأسبوع الماضي، من السير خلف “الخيار صفر” مؤكدَيْن أنه “من المستحيل احتواء الفيروس إلى نقطة الصفر، لأن الصينيين لا يتمتعون بالحصانة لمحاربة متغير أصبح مستوطِنا، وسينتشر في جميع أنحاء البلاد وينتقل أثره في الخارج”. وبغض النظر عن رأي علماء في عدم الفاعلية الكافية للتطعيمات الصينية، وتهرّب بعض المواطنين خاصة كبار السن من تلقي التطعيمات، فإن الحزب الشيوعي يروّج لطريقة معالجته الصارمة للفيروس بأنها “علامة على الحكم الرشيد” بينما يستهزئ أعضاؤه بالديمقراطيات الغربية، بعد أن توفي في دولها ملايين من البشر، كما يقولون “بسبب انحطاطها” السياسي غير المكافئ لنظامهم.

فالحزب الشيوعي يريد أن تنتهي الأولمبياد بتسليم السلطة الأبدية إلى الزعيم (شي)، بأن تبقى البلاد مغلقة لفترة طويلة، والناس تحت الحصار سواء أكانوا مقيمين أم أجانب، والقيود البوليسية، ومنع الناس من الشكوى بأي وسيلة أو التهديد بأي تجمعات رافضة لما يحدث حولهم. تتصرف السلطات كما تفعل الأنظمة الفاشية عادة، عندما توظف الأحداث التاريخية في الدعاية وإضفاء الشرعية على من هم في الحكم، ومحاربة المعارضين بدواعي “الوطنية وحماية الأمن القومي”. فهم يفجّرون المشاعر العدائية ضد الآخرين، بينما الأمر برمته لا علاقة له بما يقول الناس أو يكتبون وما يفعلون. ويأتي المطالبون بالحريات على رأس المطلوبين لهذه الأنظمة القمعية، حيث “ينظرون إلى أي نقد منهم على أنه موجه للنظام، وانتقاص من قيمة رموزه أمام التاريخ”.

الروح الرياضية

يدعو رئيس الصين إلى التحلي بالروح الرياضية، بينما يعلم الطلاب واللاعبون أن المنافسة في الرياضة هي نفس ما يحدث في الحرب، وهو ما كشفته بطلة ألعاب القوى التي انفجرت بكاءً وبغضب هستيري، عندما أخفقت في الحصول على الميدالية الذهبية خلال أولمبياد طوكيو العام الماضي، التي تمنت إهداءها إلى الزعيم الخالد. جاءت تعبيرات الفتاة الصينية خير مثال على ما وصفه الكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل بأن “الرياضة هي الحرب بدون إطلاق نار”. فالديكتاتوريون عادة يحاربون وينفقون المليارات من أجل استضافة الأحداث الكبرى وتوظيفها في غسل السمعة، لغرس مبادئ الامتثال التام للنظام، وتلقين الشباب مبادئ الصراع القاتل مع الآخرين، وهو ما فعله النازي هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية.

لقد ذهبت دعوات مقاطعة الأولمبياد أدراج الرياح، فلم تطالب المنظمة الدولية للأولمبياد هذه المرة بيجين بأي تعهدات، من أجل تحسين حقوق الإنسان وإيقاف الإبادة للمسلمين واضطهاد الأقليات، فضمنت الصين أن أي أصوات في الداخل أو الخارج سيتم إسكاتها بقوة القمع أو بسطوة المال. تحولت الصين إلى دولة أكثر ثروة و”أكثر تصادمية” وقدرة على أن توجه دروسا إلى حلفائها، عنوانها أن “القمع يجب أن يلقي بظلاله في كل مكان” بزعم أن الشعوب التي تريد الازدهار الاقتصادي والرفاهية عليها أن تدفع ثمن الاستقرار!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان