صندوق الدنيا
يحدث إذا فقدت هاتفك

في أوائل الخمسينيات من القرن المنصرم كان العم “بسيط” يسير في قرية صغيرة في دلتا مصر، وهو يحمل فوق ظهره المحنيّ، صندوقاً خشبياً كبيراً ينتهي بقطعة قماش سوداء، على جانبه الأيمن “مانفيلا” عصا لتدوير الصور بشكل يدوي، وعلى الجانب الأيسر رافعة لتشغيل الموسيقي. عم “بسيط “رجل ستيني عجوز يتحرك ببطء في ممرات القرية الترابية، وسرعان ما يلمحه أطفال القرية فيركضون حوله، فيتشجع ويرفع عقيرَته بكلام موزون أشبه بالزجل “اتفرج يا سلام، على البطل الهمام، أبو زيد الهلالي، اتفرج على ست الحسن والشاطر حسن، اتفرج على الزناتي خليفة وجحا، جوا صندوق الدنيا حكايات آخر تمام”.
يجلس الأطفال بالدور على الكرسي الخشبي ويدخلون رؤوسهم في الستارة السوداء ليشاهدوا الصور الملونة التي يعرضها صندوق الدنيا وهي تدور بشكل متتابع. وكان عم بسيط حينها هو نجم القرية المتوج، حيث ينتظره الأطفال، ثم دخل الراديو إلى القرية فبدأ الجميع يلتفون حوله، ليستمعوا إلى الحكايات المسموعة، في مقهى القرية أو مندرة العمدة، ثم تطورت الدنيا أكثر فدخل صندوق الدنيا الكهربائي “التلفزيون”، الذي يعرض الصور والمسلسلات والأفلام، بعد أعوام قليلة دخل التلفزيون القرية، وفي ذلك اليوم كانت نهاية عم بسيط!!.. بالفعل لم يعد لعم بسيط مكان، كان الناس يظنون أن التلفزيون هو نهاية العالم في الاختراعات، لكن الاختراعات والتكنولوجيا لم تتوقف حتى وصلنا إلى تلك القطعة المعدنية الصغيرة ذات الشاشة الأنيقة التي تضعها في جيبك الآن، إنه ذلك التلفون المحمول الذي يقوم بدور عشرة أجهزة على الأقل.
أهلا بكم في عالم التكنولوجيا
لم تعد التكنولوجيا مجرد كماليات كما كنا نظن، بل صارت ضرورة وجزءاً أساسياً لاغنى عنه في حياتنا، ومع انتشار الهواتف الذكية والخصائص والإمكانيات التي توفرها هذه الهواتف، أصبح في متناول الجميع أداء العديد من المهام الحياتية بكبسة زرّ من خلالها. ومن ثم لم يعد الهاتف النقال وسيلة اتصال فحسب بل صار أسلوب حياة وإدمان لا يمكن العيش بدونه، وهو ما أدّى إلى ظهور مصطلح جديد في الطب النفسي يسمّى “النوموفوبيا” أي الخوف أو القلق من فقدان الهاتف. وهذا المصطلح اختصار لكلمة No mobile phone phobia، وهو نوع من اضطرابات القلق يحدث حين حيث يخشى الشخص الانفصال عن هاتفه المحمول. وقد استعمل محقّقون بريطانيون هذا المصطلح أول مرة عام 2008 حين لاحظوا بعض العوارض المرضية لدى المصابين.
ولا تقتصر النوموفوبيا على الخوف من الانفصال عن الهاتف فقط بل تمتد لتشمل الخوف من الوجود خارج نطاق التغطية، والحرص على شحن البطارية باستمرار، وعدم الاستغناء عن الهاتف حتى في المرحاض خوفًا من تفويت أيّ رسالة أو مكالمة أو إشعار.
وهذه الحالات غير مفتعلة، فمن يفقد هاتفه مثلا أو يكون خارج نطاق التغطية من المصابين بالنوموفوبيا يشعر بالهلع والتوتر والقلق وتغيب عنه حالة الأمان التي افترضها لنفسه لأنه لن يكون قادرًا على تصفح هاتفه.
وقد تصاحب ذلك ردود أفعال حسية كصعوبة التنفس، وسرعة ضربات القلب، وضيق الصدر، والتعرّق وغيرها من الأعراض.
أعراض المرض
وأكثر الفئات تعرّضًا لهذا النوع من الفوبيا هم الشباب والأطفال الذين يقضون أغلب أوقاتهم على منصات التواصل الاجتماعي.
وعلى عكس رهاب النوموفوبيا التي يكون المرء فيه مغرمًا بالتكنولوجيا يكون رهاب “التكنوفوبيا” أي الخوف من التكنولوجيا أو الأجهزة المتطورة، وهذا الرهاب منتشر بشكل كبير في الأجيال الأكبر سنًّا الذين لم يعتادوا أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية.
وأعراض التكنوفوبيا الأكثر شيوعًا هي الخوف الشديد والقلق عند مواجهة استخدام أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية أو أجهزة الصراف الآلي؛ إذ يشعر هؤلاء بالذعر من سحب المال عبر الماكينات الآلية ويفضّلون سحبها عبر صراف البنك لما يمثله من أمان أكثر.
وقد يصاب مريض التكنوفوبيا بأعراض عضوية مثل ضيق التنفس، والتعرّق الغزير، والإحساس بالانفصال عن الواقع..
ورغم أنه لا يوجد سبب محدد لرهاب التكنولوجيا فإن العديد من النظريات تقول إن الناس غالبًا ما يخافون من التغيير وعدم القدرة على التعامل مع التكنولوجيا لأنها تتطلب التغيير باستمرار، وأصبحت تتوحّش بشكل مخيف بعد ظهور تقنيات الميتافيروس، وتطوير العالم الافتراضي إلى صندوق دنيا تدخل فيه بجسدك وكل حواسك، فالتكنولوجيا مفيدة ولكنها قد تكون مخيفة ومعقّدة، حيث لا مكان لصندوق عم بسيط فيها.
