كازاخستان مقابل أوكرانيا
الانتفاضة الشعبية في كازاخستان التي شهدتها العاصمة والعديد من المدن وكادت تطيح بالنظام قبل تدخّل قوات روسية، هي -في أحد ملامحها- جزء من حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة وروسيا وريثة حلف وارسو من جهة أخرى، وتبدو ردا واضحا من الناتو على التدخّل الروسي في أوكرانيا الساعية للانضمام إليه، وهو ما تعدّه موسكو خطا أحمر بالنسبة لها.
لا يمكننا أبدا تجاهل الأسباب الداخلية للانتفاضة المتمثلة في ارتفاع الأسعار بصورة فاقت قدرات المواطنين، مع حالة الانسداد السياسي في كازاخستان طوال العقود الماضية، على خلاف جيرانها من الدول التي تتمتع بدرجات متفاوتة من الديمقراطية، بما فيها أو على رأسها الشقيقة الكبرى روسيا نفسها وريثة الاتحاد السوفيتي الذي كانت كازاخستان جزءا منه. وحين تفكك هذا الاتحاد مطلع التسعينيات شهدت الجمهوريات المستقلة منه قدرا من التحرر والتداول الديمقراطي، على خلاف كازاخستان التي بقى رئيسها نور سلطان نزارباييف في موقعه لمدة 30 عاما، وعندما قرر أن يتخلى طواعية عن السلطة نتيجة كبر سنه عام 2019 استحدث تعديلات دستورية تبقيه حاكما فعليا من وراء الستار، حيث ينص الدستور على حقه في التدخل بصياغة السياسات الداخلية والخارجية، بل إنه أطلق اسمه على العاصمة الإدارية الجديدة التي بلغت تكلفتها عشرات المليارات وكانت أحد أسباب الأزمة الاقتصادية في البلاد الغنية بالنفط (تنتج أكثر من مليون برميل يوميا)
الدور الغربي
ومع تقدير الأسباب الداخلية الموجبة للانتفاضة فلا يمكننا تجاهل الدور التحريضي الغربي (الأطلسي)، وليس غريبا أن تستغل قوى التغيير داخل كازاخستان هذا الموقف الدولي تجاه الحكومة الديكتاتورية لمحاولة الخلاص منها. لا نتوافق في هذا الرأي مع الدعاية الكازاخية الرسمية المدعومة مِن روسيا، ولكن مَن لا يبصر من الغربال فهو أعمى، فالانتقادات الغربية لحكومة كازاخستان لا تتوقف، وهي تستحق هذه الانتقادات بالفعل، إذ تبدو أنها حكومة من العصور الوسطى في منطقة امتلكت قدرا كبيرا من الحريات والديمقراطية.
من الطبيعي أن تتهم السلطة الحاكمة المتظاهرين بالتبعية للخارج وبأنهم مجموعات إرهابية، كدأب كل النظم الاستبدادية، وهو ما فعله الرئيس الحالي قاسم جومارت توكاييف، الذي أمر قواته بقتل هؤلاء المتظاهرين مباشرة دون هوادة مما أسقط عددا كبيرا من القتلى والمصابين.
ما يدعم فكرة الدور الأطلسي في الأحداث هو المباحثات المرتقبة يوم الإثنين المقبل (10 يناير/كانون الثاني) بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلف الناتو من جهة أخرى.
حاولت روسيا قمع الانتفاضة مبكرا قبل بدء تلك المباحثات عبر إرسال وحدات عسكرية إلى كازاخستان بناء على طلب من رئيسها، لكنها لم تكن لتنتظر ذلك الطلب وهي التي تعدّ كازاخستان خاصرتها إذ ترتبط معها بأطول حدود برية، وهي واثقة بأن أي تغيير سياسي فيها سيجلب الناتو على حدودها مباشرة وهو ما لا يمكن أن تقبله أبدا، وهذا ما يستدعي إلى الذاكرة ربيع براغ عام 1968 حيث تدخلت القوات السوفيتية لقمع حركة إصلاحية في تشيكوسلوفاكيا كانت ستمنح البلاد استقلالية عن القرار السوفيتي في ذلك الوقت.
الإنقاذ
التدخل الروسي ربما أنقذ النظام من انهيار سريع بعد هذه الانتفاضة المفاجئة والمربكة له، لكنه قد لا يستطيع إيقاف حالة التمرد والغضب التي ستظل الولايات المتحدة والدول الغربية تغذيها وإن بشكل خفي، في حين تعلن أنها محايدة وأنها تدعو كل الأطراف إلى ضبط النفس. وفي الغالب فإن الهدف الغربي هو مقايضة كازاخستان مع أوكرانيا بمعنى السعي لإجبار موسكو على التخلي عن أوكرانيا وتركها تنضم إلى حلف الناتو مقابل إطلاق يدها في كازاخستان، وإذا أصرت موسكو على موقفها في أوكرانيا فإن الغرب سيواصل دعمه بصورة علنية للقوى المعارضة في كازاخستان.
المعضلة أن روسيا ستجد نفسها الآن في مواجهتين شديدتين بوقت واحد، كما أن قواتها ستكون على جبهتين متجاورتين بخلاف الجبهات الأخرى مثل سوريا وليبيا وحتى أفغانستان، وهذا جزء من التخطيط الغربي لإنهاكها في جبهات متعددة في آن واحد، مما ينعكس سلبا على أوضاعها الاقتصادية ويعرّضها لحراك سياسي داخلي.
لو نجح بوتين بحسم الجولة في كازاخستان سريعا فإن هذا سيمنحه قوة إضافية في مباحثاته مع الناتو، ويمكّنه من إغلاق ملف عضوية أوكرانيا فيه، أما إذا خسر هذه المواجهة فقد تكون نهايته السياسية.