قوانين القرآن (3) قانون الاستخلاف

جهلت البشرية قانون الاستخلاف فسقطت في مستنقع التيه، وتردت في أودية الضلال، فتخطفتها طيور الهوى حتى أضحت تتقاتل على شيء وعلى لاشيء، وصار القاتل لا يدري لِمَ قَتل، ولا المقتول لِمَ قُتل!!
وصنعت للهوى صنمًا يُملي عليها في كل يوم شرائعه، حتى أوصلها إلى منحدر سحيق في السلوك، يأنف منه الكثير من الحيوانات، واختفت ملامح الإنسانية تحت ركام العبودية لكل صغير وحقير، والطواف حول الذات، والعبودية للفلسفات والشهوات!
وزاد الطين بلة أن غاب قانون الاستخلاف عن آفاق أفهام المسلمين، ومعايير سلوكهم، فحصدوا مر الاغتراب عن شريعة رب الأرباب، وصاروا في كثير من حالاتهم مسوخًا مشوهة تحمل كلمة الإسلام، وتحرص على بعض شعائره وشرائعه، من دون التحقق بروح الشعائر وأخلاقها، أو التسليم لحكمة الشرائع ومتطلباتها، أو العمل بمقتضيات الاستخلاف وفق منهج ربها، فأنتج ذلك تناقضًا عجيبًا، تمثل مجمله في صورة غريبة عن تاريخ الأمة المجيد، وتبلورت ملامحه في حالة انفصام نكد بين عبادتها وسلوكياتها، بين ظاهرها وحقيقتها، بل نتج عن ذلك انسحاب عجيب من محراب الإعمار، فأضحت الأمة عالة على غيرها في كبير شئونها وصغيرها، بل امتدت حالة التخلف إلى استيراد الأفكار والتصورات والنظريات الغربية كما هي دونما انتقاء أو تعديل أو تطوير، في حالة انسحاق فكري وعلمي كامل، جعلت الأمة تابعة لغيرها في مختلف المجالات، يصدق فيها قول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: لو قيل للمسلم اخلع ما لم تصنعه يدك لوقف عاريًا.
قانون الاستخلاف
الاستخلاف الذي نعنيه هنا: هو تلك الإرادة والإمكانية المصاحبة لحرية الاختيار التي منحها الله تعالى لبني آدم على وجه التخصيص، ليصنعوا بها الحياة في كل مجالاتها وفق مراد الله تعالى.
فالاستخلاف هو التعبد لله تعالى في محرابين رئيسين:
ـ محراب التعبد والتنسك، ويشترك فيه الإنسان مع الملائكة ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ﴾. (البقرة: 30).
ـ محراب الإعمار، وقد خص به الله تعالى الإنسان واستحق به آدم التكريم بالسجود والإنعام عندما تحقق بمؤهلاته وتسلح بمقوماته، ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31).
والعجيب أنه في التشريع الإسلامي حينما تتعارض مهام الاستخلاف مع مهام التنسك تُخفف مهام التنسك لصالح مهام الاستخلاف، فالمسافر له أن يقصر الصلاة ويجمعها، وله أن يُفطر في رمضان ويقضي بعد استقراره.. إلخ.
والأعجب أن الإنسان حينما يموت ينقطع عمله في محراب التنسك ويبقى له ما تركه من آثار في محراب الإعمار، فلو نظرنا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” (رواه مسلم) لوجدنا أن تلك الثلاث كلها تتعلق بالاستخلاف، فالولد الصالح هو أبرز محاريب الاستخلاف، حيث يحمل الرسالة من بعد والديه إقامة للدين، وصناعة للحياة في كل ميادينها باسم الله تعالى، فيصبح سعيه مباركًا، وثوابه ممتدًّا في ميزان من ورثه ورباه وعلمه، فبناء الأجيال وإعدادها لحمل الأمانات، والنهوض بالمسؤوليات العمرانية، يُعد من أبرز مسالك الاستخلاف وميادينه.
أما العلم الذي ينتفع به فهو سر الاستخلاف ومفتاح الإعمار، فالإنسان يمتد أثره في الأرض بقدر ما ترك من علم تنتفع به البشرية، وتزدهر به الإنسانية.
وكذا الصدقة الجارية، فهي كذلك إعانة للخلق على الحياة الكريمة وتخطي صعاب الحياة، والمضي قدمًا نحو واجبات الاستخلاف، وحماية الطاقات البشرية من التعطيل، لتستمر في سيرها نحو رضوان ربها تنسكًا وإعمارًا، ونهضة وإيمانًا.
مواد قانون الاستخلاف
يتكون قانون الاستخلاف من ثلاث مواد رئيسة:
ـ المادة الأولى: الإنسان خليفة لله في الأرض وسيد
تعتبرهذه المادة مرتكزًا رئيسًا لقانون الاستخلاف، فالله تعالى كلف آدم عليه السلام بمهمة خلافته في الأرض، وهو تكليف مستمر فيمن اصطفاهم الله من بني آدم إلى قيام الساعة، ليدرك الإنسان أنه ليس هملًا فارغًا، وليس عبئًا زائدًا، وليس متحيرًا تائهًا، ولكنه قيمة كبرى في هذا الكون، وصاحب مقام كريم في الوجود بأسره، ولو أن الإنسان أدرك سر وجوده لانطلق لتحقيق مراد ربه على بصيرة من أمره، وابتغاء وجه خالقه وسيده. قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30).
ـ المادة الثانية: من فرط في مهمة الاستخلاف حقت عليه سنة الاستبدال
الاستخلاف تكليف رباني، من لم ينهض به وقصَّر في إقامته فقد استجلب لنفسه عقوبة الحرمان، فمن لم يبذل جهده سعيًا لتحقيق الاستخلاف فقد بذل جهده لتجري عليه سنة الاستبدال، فإذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله، وإذا أراد به شرًّا شغله بما لا يعنيه.
قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ (57: هود).
ـ المادة الثالثة: بقدر العلم والإيمان يتحقق الاستخلاف والإكرام
يمنح الله العبد مجالا للاستخلاف بقدر ما حصل من علوم يتعرف بها على مقام ربه، ويعمر بمنهجها أرضه سبحانه، فقد تأهل آدم للاستخلاف حينما حازعلم الأسماء، فإذا لم تنجَحِ الأُمَّةُ في تحقيقِ فتوحاتٍ علمِيَّةٍ، فلن تُفلحَ أبدًا في تحقيقِ فتوحاتٍ عسكريَّةٍ.
وللأسف هناك مَن يصبِرُ على الحبسِ سنواتٍ ولا يصبِرُ على بحثِ أسبابِ العِللِ ووسائلِ عِلاجِها ساعاتٍ.
ولا بد من أن ندرك أن السَّيف ليس دائمًا أصدقَ أنباءً من الكُتبِ، فإذا لم يتحقَّقْ للأُمَّةِ عُمقٌ معرفي ووعي إدراكي، فالسَّيفُ الذي في يَدِها ستَقتلُ به نَفْسَها.
والعِلمُ إنتاجُ المعرفةِ، وليس تخزينَ المعلوماتِ وتدويرَ المعارفِ، فإذا لم تملِكِ الأُمةُ أدواتِ إنتاجِ المعرفةِ فستظَلُّ عالةً على غيرِها، متخلِّفةً عن الرَّكبِ.
المعرضون عن القانون
أعرض السواد الأعظم في عصرنا عن قانون الاستخلاف ففقد الإنسان قيمته، وضيع مهمته، وأضحى عبئًا على الأرض وليس سيدًا لها، حيث ضل عن هدي ربه فسُلب شرف الاستعمال، ومنصب الاستخدام، ومقام الاستخلاف، وهذه أبرز نتائج الإعراض عن قانون الاستخلاف:
ـ الصغار والمذلة:
لا مجال للعز بمعزل عن القيام بواجب الاستخلاف، فسجود الملائكة لآدم جاء تنفيذًا لأمر الله وتعظيمًا للمهمة التي كُلّف بها، فإذا نكص على عقبيه فلا مجال إلا للصغار والاحتقار، والإنسان إذا خالف قانون الاستخلاف فقد غادر مقام التكريم ليحل بدركات الهلاك والخسران، ويسقط في أودية التحقير والهوان، وهو ما نص عليه قول الله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ (الأعراف: 175).
– شقاء البشرية:
حينما يخالف الناس قانون الاستخلاف ويستخدمون العلوم للعلوم، والفنون للفنون، فإنهم يسقطون حتمًا في آبار الانحراف، فيتحول اجتهادهم في طلب العلم إلى اجتهاد في طلب ما يضر النفس والغير، فيصبح العلم وبالًا ونكالًا بدلًا من أن يكون نجاة وفلاحًا، يقول الله تعالى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 102).
ـ الحرمان من الهداية:
من أعظم صور الحرمان أن يُحرم الإنسان الهداية وقد ملك أدواتها، ويُحرم التوفيق وقد حاز وسائله، وأن يعاقبه الله تعالى بالحجب عن الريادة وهو على بابها، ويُمنع من الدخول إلى باب الرحمات وهو على أعتابها، وهذه الحالة من العمى تكون نتيجة عن صرف الله تعالى للعصاة عن الانتفاع بآياته، قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 146).
المتحققون بالقانون
عرف أقوام شرف مهمتهم فنهضوا إلى العلم يغوصون في أعماقه، ليستخرجوا لآلئ التقدم، ومعالم التطور، فصنعوا بها مجدًا تليدًا وتكريمًا للإنسانية عريقًا، ومن بعض آثار تحققهم بالقانون ما يلي:
– الفهم عن الله تعالى: وهو لا ينتج إلا عن العلم، والفهم أول مقتضيات العمل بقانون الاستخلاف، وبدون فهم القانون ومعرفة مراد الله من خلقه يعتبر القيام بمهمة الاستخلاف أمرًا مستحيلًا، قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7).
– تحصيل الخشية: وخشية الله هي رأس العلم، وبها تنضبط بوصلة المؤمن في علاقته بالله تعالى، ولقد قصر الله الخشية على المتصفين بصفة العلم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (فاطر: 28)، ومن الملاحظ أن هذه الآية مسبوقة بآيات تتحدث حول آيات الكون المنظورة وما يتعلق بها من علوم طبيعية، وهو ما يؤكد أن العلم المطلوب لتحقيق الاستخلاف لا يقتصر على العلم الشرعي فحسب، بل يتعداه إلى سائر العلوم النافعة.
– حماية الأمة من الضلال: فالأمة لابد لها من قادة يحرسون حدودها، ويذودون عن حياضها بسلطان العقل وسيف الحكمة، بحيث يكونون هم المرجع للأمة حال الشك والاختلاف ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (النساء: 83).
وأخيرًا
الاستخلافُ أعظمُ مَهمَّةٍ يقومُ بها الإنسانُ، فلا تدَعْ شياطينَ الإنسِ والجنِّ تسلُبُ منك هذا الشَّرفَ، وتحجُبُك عن مهمَّتِك على الأرضِ.
أنت خليفةٌ للهِ على الأرضِ، فلا تستحقِرْ نفْسَك، ولا تستصغِرْها، ولا تدَعْ لأحدٍ فُرصةً لأن يُوهِمَك بأنك لا شيءَ أو أنك لا فائدةَ منك.
أنتَ في القيمةِ أسْمى العَالَمَيْن كِلَيهما، فماذا يُمكنُ أن أفعلَ إذا كنتَ لا تعرِفُ قَدَرَك!! لا تبِعْ نَفْسَك رخيصًا، وأنتَ نفيسٌ جدًّا في ميزان الحقِّ.