حق العودة بين عشية وضحاها

حكميتار

أذكر في عام 1992 دخل المجاهدون الأفغان العاصمة كابول، بعد 8 سنوات من الحرب، وأعدموا الرئيس نجيب الله، الذي ظل صامدًا بقواته 4 سنوات بعد انسحاب القوات السوفييتية عام 1988، في هذه الأثناء توجهتُ إلى هناك مندوبًا عن صحيفة الأهرام، لتغطية تلك الأحداث التي كان يراقبها العالم بشغف بالغ لأسباب عديدة، وكان السيد حسن الترابي رئيس البرلمان السوداني الراحل وزعيم حزب المؤتمر أول من هبط بطائرتي إغاثة، وعاد بهما محملتين بالشباب العربي الذين أرادوا العودة إلى بلادهم، ذلك أن جميعهم لا يمتلكون مالًا للعودة، وربما فقد بعضهم جوازات السفر، وفي معظم الأحيان انتهت صلاحيتها.

مع انتهاء الحرب، رأى شباب المجاهدين العرب أن الهدف قد تحقق، وانسحب الجيش السوفييتي مهزومًا، وسقط نظام الحكم الشيوعي، وبدأت مناوشات المجاهدين مع بعضهم بعضًا، تحديدًا (قلب الدين حكمتيار وأحمد شاه مسعود)، فقرر معظم الشباب العربي العودة إلى بلادهم التي جاءوا منها بهدف الجهاد، بتشجيع حينذاك من الأنظمة الرسمية التي فعلت ذلك بتعليمات أمريكية بالطبع، إلا أن هؤلاء الشباب اصطدموا بالمفاجأة: صدرت تعليمات في بعض الدول باعتقال كل القادمين من أفغانستان!!

ليس حكرًا على الفلسطينيين

حين ذلك سمعتُ للمرة الأولى تعبير “حق العودة” بمعزل عن القضية الفلسطينية، وذلك حينما جاءني شاب مصري، من الإسكندرية، خريج كلية الهندسة، وقال: نشرت صحيفة الحياة اللندنية خبرًا في صدر صفحتها الأولى حول قرار أمني مصري في هذا الشأن، وقال الشاب: جئت إلى أفغانستان من أجل الجهاد، وليست لي علاقة بأية جماعات أو تنظيمات، والآن من حقي العودة إلى الوطن، لماذا يمنعوني؟ ولماذا يعتقلوني؟ وكأنهم أشبه بسلطة الاحتلال.

بالفعل كان “حق العودة” تعبيرًا فلسطينيًا بامتياز، ظل حكرًا على الأشقاء الفلسطينيين على مدى 75 عامًا، هو عمر النكبة، وهو حق لا ينازعهم فيه أحد جهرًا في المنتديات، أو في “الميكروفونات” ووسائل الإعلام عمومًا، إلا إن أخلاقيات السياسة، وتحديدًا أخلاقيات الغرب، لم تتخذ أي إجراء لتفعيل هذا الحق التي أقرته المواثيق والقوانين الدولية، ثم توالت القضايا والأزمات العربية الداخلية، فصار هذا الحق يتردد في أروقة وأوساط كثيرة، تتطلع إليه الآن حشود ربما من الجنسيات العربية كلها، يرفعون من المحيط إلى الخليج شعار حق العودة، ولا من مجيب.

خلال النصف الثاني من القرن الماضي، كان هناك بعض الفارين من أنظمة الحكم هنا وهناك، إلا أنهم كانوا إما بعدد أصابع اليد، أو يزيدون كثيرًا في بعض الأحيان، إذا استثنينا من تركوا مصر من جماعة الإخوان المسلمين في حقبتي الخمسينيات والستينيات، إلى دول خليجية عدة، فرارًا من حكم الرئيس جمال عبد الناصر، ثم تكرر هذا المشهد في عهد الرئيس أنور السادات، مع المعارضين من أيديولوجيات مختلفة لاتفاقية السلام مع العدو الإسرائيلي عام 1979.

الآن تطور الأمر، وبخلاف نزوح الملايين هربًا من قذائف الحروب ومدافعها وقنابلها، أصبحنا نرى الآلاف، وفي بعض الدول عشرات الآلاف، الذين هجروا بلادهم، إما خوفًا من بطش الحاكم، أو بحثًا عن حياة أفضل، إلا إنهم في الأحوال كلها تم وضع معظمهم في قوائم ترقب الوصول، أو ضمن متهمين في قضايا إرهاب وما شابه ذلك، صدرت ضدهم أحكام قاسية بالفعل، تجعل من عودتهم أمرًا مستحيلًا، وهنا سوف تسمع في أوساط هؤلاء وأولئك طوال الوقت تعبير حق العودة، خصوصًا بعد أن طال السفر، أو بعد أن طالت الغربة، وربما بعد أن طال أمر الظلم.

الاغتراب

كاتب هذه السطور اغترب طويلًا من أجل العمل، ويعي معنى الغربة طوعًا -أكرر: طوعًا- ما بالنا بالغربة قسرًا، بالتأكيد الكثير منا لا يدركون معنى الغربة لا طوعًا ولا قسرًا، وهو أمر لو تعلمون عظيم، قاسٍ، مضن، مؤلم من الوجوه كلها، الغريب أن هذه القضية ليست مطروحة داخل البلدان الطاردة إلا ما ندر، ذرًا للرماد في العيون، لا يتم أبدًا مناقشتها في أروقة البرلمانات، ولا على موائد الحكومات، ولا حتى في وسائل الإعلام، رسمية أو غير رسمية، قد يأتي ذكرها على بعض ألسنة الناشطين على استحياء، أو بغير إنصاف، وأحيانًا بتعنت وتشدد، إما في إطار الجهل الأبدي، أو النفاق البغيض.

قرأت تعليقًا لأحد الصحفيين المقهورين أو المغتربين قسرًا، يستعين فيه بفقرة من غناء الفنان وديع الصافي يقول فيها: (على الله تعود على الله، يا ضايع في بلاد الله)، وقرأت لآخر يقول: هل أحتاج إلى وثيقة أمان كي أعود إلى وطني؟ وهل أحتاج إلى ضامن كي أزور أهلي مطمئنًا أني لن أعتقل؟ وسمعت من ثالث يقول: إن المنفى كان عملًا من أعمال الاستعمار فقط، لا يجوز أبدًا أن يكون من فعل حكومات وطنية، ولا يجوز لمواطن، أيًا كان منصبه أن يمنع مواطنًا من العودة إلى وطنه.

الغريب أن هناك متطوعين للنفاق، وأحيانًا بتوجيهات أمنية، يلجأون للقضاء لإسقاط الجنسية عن هؤلاء أو أولئك، يحدث ذلك دون أدنى خجل، وفي غياب تام للضمير، آخرون يحلو لهم التشهير بهم بدعاوى وهمية، تضيف إلى غربتهم آلامًا ومواجع لن يشعر بها الآخرون أبدًا، ناهيك من أن هناك من تركوا أبناءهم في أوطانهم ولا يستطيعون رؤيتهم سنوات طويلة، وهناك من رافقوهم في غربتهم، وفي الأحوال كلها يعاني هؤلاء وأولئك معاناة شديدة، من الفراق في الأولى، والاغتراب في الثانية.

ويجب التنبيه في الأحوال جميعها، على أن عودة المهجرين واللاجئين والفارين والمضطهدين إلى أوطانهم بشكل عام، هي بادرة مهمة لإرساء الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي تنشده مثل هذه الأوطان، ولا يتطلب الأمر سوى مبادرات مخلصة، تضع في الاهتمام أن معظم هؤلاء مهمومون بشؤون أوطانهم وتقدمها أكثر من غيرهم ممن اعتادوا النفاق بالداخل، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ذلك أنه كان يمكنهم الانبطاح والنفاق، أو على أقل تقدير إيثار السلامة واللامبالاة، والنأي بأنفسهم عن الشأن العام.

ميثاق الجامعة

أعتقد لو أن هناك ميثاقًا حقيقيًا لجامعة الدول العربية ينحاز للشعوب، لحملت الجامعة على عاتقها مثل هذه القضية، لو أن هناك حياة سياسية حقيقية في الدول المعنية لما حدث ذلك، لو أن هناك احترامًا للدساتير والقوانين لما تجرأ أحد على فعل ذلك، لو أن هناك أحزابًا سياسية بالمفهوم الصحيح، لو أن هناك نخبة سياسية، لو أن هناك برلمانات منتخبة انتخابًا حقيقيًا، لو أن هناك منظمات مجتمع مدني على المستوى المأمول، لو أننا تخلينا عن الأيديولوجيات البغيضة لحساب الصالح العام للوطن لاختلف الأمر تمامًا.

القضية إذن أكبر بكثير من مجرد أمنيات وآمال، قضية لا تجد من يتصدى لها بضمير وطني، المغتربون طوعًا وقسرًا يجب أن يعوا أن مواطني الداخل في أي من هذه الدول ليسوا أفضل حالًا، هم مغتربون أيضًا داخل أوطانهم، المعاناة شاملة وإن اختلفت أشكالها، يجب أن يعوا أن الاغتراب في الأحوال كلها أفضل من السجون والمعتقلات، ليكن أملنا في الله وحده، لنحسن الظن به سبحانه، قد يجمع بين “عشية وضحاها” شمل من في الخارج، ويزيح كرب من في الداخل، ويفك أسر من هُم خلف الأسوار، إنه سبحانه على كل شيء قدير، وما ذلك على الله بعزيز.

المصدر : الجزيرة مباشر