الصين الشيوعية دولة ديمقراطية.. هل تصدّق؟!

بعد انتهاء احتفالات الصين بالعيد الوطني، سيسود الهدوء والصمت المطلق، فلا صوت يعلو فوق صوت الرئيس شي جين بينغ، الذي يجهّز المسرح لأكبر وأهم حدث في القرن الحالي. سيتوقف الساسة ورجال الأعمال وأساتذة الجامعات عن الكلام، حتى لا يُحسب لطرف دون آخر، وتتعطل وصلات الإنترنت، التي تسمح للأجانب والمحظوظين بالولوج إلى شبكات التواصل، دون المرور على حزام ناري يمنع تسرب أي معلومات، والرقابة الأمنية الصارمة. تعرض القنوات خطابات “شي” ولقاءاته الحميمية مع أبناء الشعب، وسيتحدث الجميع عن الإنجازات فقط، فلا تسامح مع أي رأي يعكر صفو قادة الحزب الشيوعي، الذين يجهزون المسرح لاجتماعات الدورة العشرين للحزب، التي ستبدأ في 16 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري وتستمر أسبوعا.
أحزاب ديمقراطية
اعتاد المسؤولون الصينيون -منذ مطلع القرن الحالي- دعوتنا وكثير من الصحفيين والساسة، قبل انعقاد هذه المؤتمرات بفترة، للتفاخر بأن لديهم “ديمقراطية ذات خصائص صينية”. يلفتون انتباهنا إلى وجود 7 أحزاب سياسية، تعمل تحت عباءة الحزب الحاكم، يُطلق عليها “الأحزاب الديمقراطية”، اعترفت بتسليم السلطة المطلقة للشيوعيين لقيادة الدولة، عقب دخولهم بيجين مطلع أكتوبر 1949. احتفظ الشيوعيون بتلك الأحزاب، كأيقونة يتباهون بها في لباس السلطة. لم يكن لهذه الأحزاب قيمة، في عهد الزعيم ماو تسي تونغ، الذي فرض الماركسية اللينينية، وفقا للنهج السوفيتي، وعندما اختلفت مع الروس أطلق عليها “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”.
بحلول عام 1985، كان ثلث العالم يعيش تحت أنظمة حزب واحد تدين بالماركسية اللينينية، ونظر إليها كثير من الشيوعيين العرب على أنها بديل للرأسمالية، إلى أن سقط الاتحاد السوفيتي، فلم يعد في العالم إلا 4 دول، كمبوديا وفيتنام وكوبا والصين الأكثر تأثيرا. منذ تولي “شي” السلطة عام 2013، لم يعد هناك ذكر رسمي لتلك الأحزاب، رغم أنها لا تملك إلا مكاتب تمثيل بالمجلس الاستشاري للدولة -الموازي للغرفة الثانية في البرلمان- ورموزها المتبقية من عصر “ماو”، يحصلون على رواتب حكومية ويعيَّنون بالمجلس بقرار من الرئيس.
متلازمة “شي”
سبّب الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفيتي صدمة، تُلازم “شي” القادم من مجموعة النخبة، التي شكّلها الحزب خلال الفترة من 1982- 1984، وضمت 1100 شاب من أبناء القادة المؤسسين للدولة، أطلِق عليهم لقب “الأمراء” أو “تاييزي” Taizi. تصدّر “شي” جيل الخمسينيات، حيث الفقر والحروب العميقة بين قيادات الحزب، التي أدت إلى تعذيب والده الثائر رفيق “ماو”، والوزير بمجلس الدولة.
ولِد الأمير “شي” لأب إصلاحي محبوب، نفوه، فانتحرت أخته، وتعرّض للعمل القسري في الريف، وبدلا من توجهه للإصلاح كأبيه، خالف نهجه، وعاد بالحزب إلى عصر “ماو”.
يعتقد شي أن “الاضطرابات السياسية والتلوث الأيديولوجي مصدر تهديد للنظام”، ويؤمن بأن الشيوعية في الاتحاد السوفيتي فسدت من الداخل، لعدم الالتزام الأيديولوجي والسيطرة الكافية للحزب على مراكز القوة، التي تدفع الناس إلى الانصياع لسلطته.
القومية أولًا
تفوّق “شي” على زعيمه “ماو” بأن جعل الروح القومية أعلى رتبة من الشيوعية، فيعلم أن الأغلبية من الهان، قوميون متعصبون، يؤمنون بأن “الفرد يجب أن يقبل الانتقاص من حريته أو خصوصيته من أجل الصالح العام”. يوظف “شي” قدراته الخطابية، لدى شعب يحب الكلمات الرنانة والنثر المسجوع والشعارات الراقصة والخاطفة للأبصار. بالموهبة نفسها استطاع إزاحة الخصوم الذين يهددون مكانته، لا سيما الذين يرون أن الصين اكتسبت مكانتها الاقتصادية وقوتها، من خلال الانفتاح على العالم، وأن الإصلاح السياسي لا بد أن يكون مواكبا للإصلاح الاقتصادي، حتى لا ينهار النظام فجأة، أو تعود البلاد إلى عزلة أوقعت الإمبراطورية الصينية من قبل، فريسة للاستعمار.
يحرص “شي” منذ تصعيده مع “الأمراء” على تجميع رجاله، الذين صعدوا به بعد المؤتمر السابع عشر للحزب 2007، حيث أصبح مسؤول التثقيف السياسي، وحاكم بيجين، وأتوا به سكرتيرا عاما للحزب عام 2012، ورئيسا للدولة 2013. يمثّل رجاله 5% من مجموعة الأمراء، ومع ذلك يشكلون الأغلبية في المكتب السياسي ومجلس الدولة والأمن القومي.
كوادر الحزب
أعد “شي” المسرح ليعتليه رئيسا لفترة ثالثة ومدى الحياة، ولكن هذ المرة ليمنحوه لقب “زعيم الشعب”، بما يرفعه إلى مرتبة أعلى من الزعيم ماو. يروّج “شي” بأنه سيأتي عبر نظام ديمقراطي على الطريقة الصينية.
واقعيا، شعب تعداده 1.4 مليار نسمة، لا علاقة له بما يدور في الانتخابات. فهناك شعب آخر، هم أعضاء الحزب الشيوعي، يمارسون حق الاقتراع على مراحل، ورفع “شي” تعدادهم إلى 97 مليونا في يوليو/تموز الماضي، ينتخبون كوادر الحزب التي زرعها في كل المكاتب الحكومية بالأقاليم والوزارات والجيش والشرطة والجامعات والبنوك والشركات العامة والخاصة والمجمعات السكنية.
الصين العملاقة دولة كوادر الحزب، فالوطن ميدالية تتدلى بأيديهم، يتحكمون في شؤونه وثرواته بديلا عن الشعب، بما في ذلك من نجاحات وكثير من الفساد. تختار الكوادر مجموع المجلس الوطني لنواب الشعب، تعدادهم 2280 عضوا، شكّلهم “شي” ورجاله منذ 5 سنوات. سيطلب من هؤلاء يوم 16 أكتوبر، اختيار اللجنة المركزية للحزب، التي تتكون من 200 عضو. وبدورها تؤيد تشكيل المكتب السياسي للقادة الذي يضم 25 عضوا أساسيا وآخرين مثلهم احتياطيا، واللجنة الدائمة للمكتب السياسي التي تتكون من 5-9 أعضاء يمثلون قمة الهرم السياسي في الدولة، وعلى رأسهم “شي” ورئيس مجلس الوزراء.
ماذا بعد الانقلاب؟!
يُفترض ترقية عدد من القادة الأصغر، تمهيدا لأن يكون الجيل السادس والسابع في المقدمة، بعد أن بلغ جيل الخمسينيات السبعين عاما، وأصبح متخطيا قواعد الحزب، التي تنص على تقاعد كل من بلغ 68 عاما للرئيس و65 عاما لمن دونه.
تعديل “شي” (69 عاما) للنظام، انقلاب على القواعد، قد تدفعه إلى الحفاظ على رجاله الأمراء، أو دفعهم إلى حياة الظل، فحتما سيفوز بتتويجه منفردا بليلة الزعيم.
تبدو ديمقراطية الصين غير مفهومة للغرباء، لكنها في أعلى المستويات تشبه الدائرة المغلقة للحزب الشيوعي “التقاطع بين البيروقراطية اللينينية، والبلاط الملكي القديم، وعائلة المافيا”.