دا سيلفا.. هكذا نجح!

لولا دا سيلفا

احتشدت الجماهير الغفيرة أمام منزل الرجل الفقير، لا يزال كما هو لم تغيّره الأيام ولا السلطة، أعلام الوطن الذي أحبوه معه ترفرف في جوانب المكان، صور الرجل الذي انتشل بلدهم من الفقر والخراب والإفلاس تملأ الساحة التي طالما شهدت أفراح شعب كان يأكل طعامه بصعوبة، بعد أن سيطر 1% من سكان الدولة الكبيرة على كل ثروات البلاد، وتركوا بقية الشعب يعيشون على الكفاف.

الرجل الذي هز عرش صندوق النقد الدولي، وقال عنه “ما دخل دولة إلا وخربها”، وبعد أن كان الصندوق يستعد لإعلان إفلاس بلاده صار وطنه دائنا له، إنه الرجل القادم من الحارات الضيقة والبيوت التي لا ترى الشمس في قارة أمريكا الجنوبية.

دورتان أمضاهما على كرسي رئاسة البرازيل كبرى دول القارة، ومن ديون لا تتوقف عن التزايد، وفقر ينهش في عظام الوطن والمواطن إلى دولة تحتل مكانا متفردا في قائمة الدول الأفضل اقتصادا في العالم، وتدين الصندوق الذي يدين له الجميع، ومن دولة لا تصنع إلى دولة من خمس دول تصنع الغواصة النووية.

يأتون إليه وعيونهم تملؤها الدموع، يرجون منه أن يعدّل دستور البلاد ليظل رئيسا، لكنه لا يملك إلا البكاء معهم، لا يستطيع تعديل الدستور الذي عاش عمره منذ أن كان صبيا يحلم أن يصبح لبلاده مثله.

أي قوة نفسية تحلى بها الرجل الذي ذاق معنى الفقر والجوع والألم صغيرا، وآلام النضال في النقابات العمالية يكافح مع العمال لنيل حقوقهم البسيطة من أصحاب الأعمال الأثرياء، ورئيسا يأتي إلى حكم بلاد تئن من وطأة الجوع والاستبداد.

هكذا أعلنها وبقوة “لا” صارخة مدوية في وجه جشع النفس البشرية وأطماع السلطة وسكرتها، تلك الأطماع التي تزين للجالس على العرش أنه لا زعيم إلا هو، ولا ملهم سواه، وبدونه ستتصبح البلاد لا وجود لها، لِمَ لم يزيّن له الشيطان أنه الوطن والوطن هو؟

كيف كان حلمه صغيرا؟

هل فكر ماسح الأحذية في شوارع البرازيل أنه سيصبح رئيسا لها في يوم من الأيام؟ وإن كان قد فعلها ومر عليه طيف في ليلة مقمرة أنه سيكون، هل ضحك من أعماق قلبه وهو يحمل صندوقه الخشبي على ظهره؟ هل ضحك بصوت عال فوصمه من حوله بالجنون؟ كيف له أن يحلم وحلم كل البرازيليين في ذلك الوقت أن تمر أيامهم بسلام؟

بدأ لولا دا سيلفا المشوار من هناك من شوارع الفقراء، فقد بدأ حياته ماسحا للأحذية وصبيا في مصبغة، ثم عمل في محطة وقود وبائعا للخضار وورشة حدادة ثم في مصنع للحديد، ومن تجمعات العمال ونقاباتهم كان يناضل قائدا نقابيا من أجل ظروف أفضل للعمال في أرجاء البرازيل، وفي عام 1980 أسس حزب العمال البرازيلي بعد رحلة داخل نقابات العمال.

هل كانت هذه البداية -خاصة في ظل حكم ديكتاتوري عسكري- انطلاقة حلمه للوصول إلى كرسي الرئاسة في بلاده؟ وكيف لحلم مثل هذا أن يتحقق؟ ألم يوجد في البرازيل من يعبث داخل حزب العمال البرازيلي فيدس داخله أعضاء يقومون بانقلاب على المؤسس والرئيس؟ ألم يجدوا بين العمال أو حتى مع دا سيلفا طريقا للسيطرة عن طريق إغراء أو ممرا ليقدّموا له مصالح تغنيه وتجعله بين أياديهم طائعا يميل مع كل ميل، فلا تقوم للحزب قائمة أم إن ما يحدث في جمهوريات الموز في الشرق المنكوب لا يحدث هناك في أمريكا الجنوبية؟

مضى حلم الرجل ينمو لا يوقفه أي شيء حتى جاء الموعد المحسوم، انتخابات البرازيل عام 2003، في هذا العام تقدّم ماسح الأحذية إلى المنصب الأعلى في البلاد منصب الرئيس.

 

دا سيلفا وأصحاب الثروات والمصالح

كان الطامة كبرى على أغنياء البرازيل، هم لا يدرون ماذا سيفعل بهم، هل يصادر أموالهم أم سيطردهم خارح البلاد؟ لم يقفوا معه وهو القادم من الحرمان لكنهم أيضا لم يحاربوه ويطلقون الجملة الشائنة لأي إنسان “ابن مَن في البرازيل”، انتظروا ماذا سيفعل، وأعلنها دا سيلفا مرة أخرى “التقشف ليس إفقار الجميع، بل استغناء الدولة عن كثير من الرفاهيات لدعم الفقراء”.

بدأ الرئيس مشوار الآلاف من الأميال وليس الألف ميل، وانتشل البرازيل من براثن صندوق النقد الدولي الذي قال عنه إنه سبب خراب البلاد، دعم دا سيلفا الفقراء الذي ينتمي إليهم بالملايين من موازنة الدولة.

منح رجال الأعمال والثروات تسهيلات في التراخيص والإجراءات، واتسعت رقعة الإنتاج والاستهلاك بالخلاص من الفقر تدريجيا، اعتمد التصنيع والتنمية طريقا لصعود وطنه، لم يدعي أن 200 مليون برازيلي عائق أمام التقدم والرقي.

أعادت سياسات دا سيلفا المهاجرين إلى الوطن، وجاء إلى البرازيل أكثر من مليونَي مستثمر أجنبي، ليصبح البلد الغني بأهله من أقوى ثمانية اقتصادات بالعالم، في نهاية دورته الرئاسية الثانية.

اختار (لولا) الدستور وغادر السلطة، وبعد خروجه تعرّض لاتهامات بالفساد واستغلال السلطة، وعلى مدار عام ونصف عام في المحاكمة، تعرّض الرجل -وبخاصة من أعدائه- لهجمات كثيرة وتشويه، لكن دا سيلفا (77 عاما) لم يستسلم حتى حصل على براءته، وخرج من محبسه ليجد ملايين البرازيليين في انتظاره.

بعد 11 عاما على خروجه من قصر الرئاسة، يعود الرجل الآن إليه رئيسا للمرة الثالثة، بعد معركة شرسة مع يميني متطرف ترفع زوجته علم الكيان الصهيوني، ولكن دا سيلفا -بكوفيته الفلسطينية- ينجح مُتوّجا رحلة كفاح، ويصبح مثالا لكل من يبحث عن الحرية والعدل والمساواة، ولا عزاء لليساريين العرب، فيكفيهم التعلم من يسار أمريكا الجنوبية والفرحة لهم، فهذا آخر ما يمكنهم فعله.

المصدر : الجزيرة مباشر