مؤسسات التمويل الدولية وشروطها السياسية

احتجاجات ضد صندوق النقد الدولي

 

خلال العام 2022 تقدمت دول عربية، من بينها مصر والسودان وتونس ولبنان والأردن، بطلبات للحصول على قروض من مؤسسات التمويل الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، ودخلت هذه الدول في مفاوضات ممتدة مع هذه المؤسسات، ليس فقط على قيمة القروض التي ترغب في الحصول عليها، ولكن -وهو الأهم- على شروط الحصول على هذه القروض.

تلك الشروط التي لا تقف عند حدود الأبعاد الاقتصادية، ولكنها تمتد كذلك إلى أبعاد سياسية شديدة الأهمية والخطورة، عُرفت في إطار العلاقات الدولية باسم “المشروطية السياسية”، وهنا يكون السؤال عن طبيعة هذه الشروط وما يمكن أن يترتب عليها من أخطار وتحديات مستقبلية.

المشروطية السياسية.. البدايات والمضامين

ظهرت فكرة المشروطية في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، حيث ركزت مؤسسات التمويل الدولية في البداية على آليات الإصلاح الاقتصادي في دول العالم الثالث، ومن بينها الدول العربية، وكان الهدف المعلًن تبني برامج وسياسات تتكيف من خلالها هذه الدول مع النظام الاقتصادي العالمي القائم على السوق الحرة والتجارة المفتوحة، وتحرير الأسواق والعملات الوطنية.

ومع بداية التسعينيات، بدأت الدول المانحة والمؤسسات المالية النقدية ممارسة الضغوط على الدول النامية لإقامة نظام ديمقراطي مدني يستمد شرعيته من إجراء انتخابات تنافسية متعددة الأحزاب، وكانت وسيلتها للوصول إلى هذا الهدف هي التهديد بإيقاف المساعدات والتسهيلات المالية، أو إيقافها فعلا بهدف فرض نوع من العزلة والحصار على الأنظمة التي لا تتبع النهج الديمقراطي لإجبارها على السير في طريق التحول الديمقراطي.

وارتبطت سياسات المشروطية خلال هذه المرحلة باعتبارات أساسية، منها التغيرات التي شهدتها دول أوربا الشرقية، وسقوط الاتحاد السوفيتي، وهيمنة الولايات المتحدة بنموذجها الليبرالي على النظام الدولي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أن الدول المانحة أرادت تسويغ استمرار معوناتها للدول الفقيرة أمام شعوبها بمبررات نشر الديمقراطية وتعزيز الحكم الرشيد في هذه الدول.

وبذلك خرجت مؤسسات التمويل الدولية عن المسار المحدد لها والوظائف التي أنشئت من أجلها، إذ يؤكد ميثاق البنك الدولي أنه يجب عليه عدم التدخل في الشؤون السياسية لأعضائه، ويجب ألا يتأثر بالاعتبارات السياسية في قراراته، ورغم ذلك فإن تقرير البنك الدولي الصادر عام 1992، أكد أنه على الرغم من أن البنك لا يستطيع أن يمارس دورا مباشرا في تصميم برامج المشروطية السياسية فإنه ما زال يمثل قناة رئيسية لتطبيقها، بل إن رئيس البنك الدولي روبرت زوليك طالب، في سبتمبر/أيلول 2010، بإضفاء الطابع الديمقراطي على اقتصاديات التنمية منذ نشأتها.

وتكون المحصلة أن عدم التزام الدولة بالشروط السياسية التي تضعها مؤسسات التمويل الدولية ومَن يتحكم فيها، يترتب عليه إيقاف القروض والمساعدات المالية بحجة أنها تفتقد المناخ الديمقراطي الملائم الذي يدفع النمو الاقتصادي، ويُمكّن الدولة من تسديد التزاماتها المالية، وبالتالي أصبحت هذه المنظمات أداة لسيطرة الدول الكبرى والغنية على مقدرات الدول الفقيرة وثرواتها الطبيعية، ليس هذا فقط، ولكن أيضا للسيطرة على قرارها السياسي وسيادتها الوطنية.

 

الشروط السياسية وغياب المصداقية

إن ما تذهب إليه مؤسسات التمويل الدولية بالربط بين منح القروض والمساعدات ونشر الديمقراطية وتعزيز الحكم الجيد ومواجهة الفساد والاستبداد، يفتقد في الكثير من الحالات إلى المصداقية، بل يمكن القول إنه أقرب إلى التضليل الممنهج، فمن ناحية، نجد أن أكثر النظم السياسية حصولا على قروض هذه المؤسسات خلال السنوات العشر الأخيرة -على سبيل المثال- يتم تصنيفها من بين أكثر النظم فسادا واستبدادا وغيابا للنزاهة والشفافية والعدالة القانونية، والأكثر انتهاكا للحقوق والحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

بل إن الولايات المتحدة، أكثر الدول تحكما في توجهات مؤسسات التمويل الدولية وسياساتها، وإن كانت قد رفعت شعارات تعزيز الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان شروطا للقروض والمساعدات، تستخدم هذه الشعارات فقط أدوات تستغلها لتحقيق مصالحها، وترتبط بحجم الاهتمام الأمريكي بحالة كل نظام سياسي وما يمكن أن يقوم به من أدوار وظيفية في إطار السياسات الأمريكية.

ومن ناحية أخرى، نجد أن أكثر الدول التي حصلت على قروض ومساعدات من هذه المؤسسات، هي الأكثر انهيارا على مستوى العملات الوطنية في مواجهة العملات الأجنبية، والتضخم وارتفاع الأسعار، وبالتالي ارتفاع مؤشرات الفقر وانهيار مستويات الخدمات الأساسية التي يحتاج إليها المواطنون في الدول المستقبلة لهذه القروض وتلك المساعدات.

 

النظم الاستبدادية وشرعية المؤسسات التمويلية

أحد المؤشرات الخطيرة التي ارتبطت مؤخرا بحصول بعض الأنظمة السياسية على قروض ومساعدات من مؤسسات التمويل الدولية، هو تباهي هذه الأنظمة بذلك واعتبار حصولها على هذه القروض إنجازا تاريخيا يُحسب لقيادتها الرشيدة وسياساتها الحكيمة، وأن ذلك ليس فقط شهادة دولية بسلامة توجهاتها الاقتصادية، ولكنه أيضا أحد مصادر شرعيتها السياسية.

وتقوم هذه الأنظمة بحشد آلتها الإعلامية للترويج لذلك، رغم ما تشتمل عليه هذه القروض من أخطار وتهديدات لحاضر الاقتصادات الوطنية ومستقبلها، وخاصة في ظل ارتباطها بفساد اقتصادي واستبداد سياسي، تؤكده العديد من التقارير الدولية الصادرة عن منظمات حكومية وغير حكومية.

من لبنان إلى تونس إلى مصر.. المحصلة صفر!!

تقول الأرقام الرسمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي (حتى 26 أكتوبر/تشرين الأول 2022) إن مصر هي أكبر دولة عربية مدينة للصندوق، وبلغ حجم ديونها 17.75 مليار دولار بجانب 3 مليارات جديدة تمت الموافقة عليها مؤخرا، تليها تونس ويبلغ حجم ديونها 2.07 بجانب 1.9 مليار جديدة يتم التفاوض حولها، وفي المركز الثالث تأتي المغرب (1.95 مليار) ثم الأردن (1.58 مليار) ثم السودان (1.29 مليار)، وخلال نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أعلن الصندوق توصّله إلى اتفاق مع موريتانيا لمنحها قرضا بقيمة 83 مليون دولار.

إلا أن الأغرب من ذلك هو خروج رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي ليؤكد أنه لا مخرج للأزمة الاقتصادية التي يعانيها لبنان دون إقرار الاتفاق النهائي مع الصندوق الذي بدأت معه مفاوضات للحصول على قرض منذ يناير/كانون الأول 2022، في الوقت الذي فشل فيه البرلمان اللبناني في اختيار رئيس للبلاد التي تعاني شغورا رئاسيا منذ الأول من نوفمبر 2022.

يكفي متابعة الأوضاع الاقتصادية، وحجم التردي في الخدمات العامة، ونسبة توفير السلع الأساسية، وقيمة العملات الوطنية، وحجم التضخم وارتفاع الأسعار في كل من لبنان ومصر وتونس والسودان، وهي أبرز الدول العربية التي حصلت على قروض من صندوق النقد الدولي خلال عام 2022، لنقف بدقة على حجم المعاناة الحقيقية التي يعيش في ظلها مواطنو هذه الدول، بل إن دولة مثل لبنان خرج أحد مسؤوليها معلنا إفلاسها، ووصل سعر عملتها إلى 50 ألف ليرة للدولار الواحد.

ورغم هذا، تخرج علينا الأنظمة السياسية وآلتها الإعلامية في هذه الدول للاحتفاء بالإنجازات التاريخية، ودورها في ترسيخ الحرية والديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان، دون أن نعرف عن أي إنسان يتحدثون!!

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان