ماذا بعد عودة موسكو إلى اتفاقية إسطنبول لتصدير الحبوب؟!

أردوغان وبوتين

تراجُع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن قراره بتجميد مشاركة بلاده في استمرار العمل باتفاق نقل الحبوب الأوكرانية عبر الممر الآمن في البحر الأسود، نجاح جديد يحسب للسياسة الخارجية التركية، إذ يعد ثمرة لجهود سياسة ودبلوماسية وعسكرية مكثفة قام بها الرئيس أردوغان وفريق العمل المساعد له.

صحيح أن هذه الجهود انصبت فقط على ضمان استمرار تنفيذ اتفاقية إسطنبول المحددة المدة (أربعة أشهر)، التي ينتهي العمل بها في التاسع عشر من الشهر الجاري، لكن أنقرة كانت تطمح إلى تمديد العمل بهذه الاتفاقية عدة أشهر إضافية، مع بذل المزيد من الجهود الدبلوماسية خلال هذه الفترة للتوصل إلى وقف إطلاق النار بين البلدين، وفتح المجال أمام مباحثات ثنائية تفضي إلى إنهاء الحرب، وبدء مرحلة جديدة تضمن عودة الهدوء والاستقرار إلى هذا الجزء من العالم.

وبذلك تكون الدبلوماسية التركية والجهود السياسية قد استطاعت بحق تحقيق انتصار تاريخي يضع تركيا في مصاف الدول الكبرى الفاعلة على الساحة الدولية، وهو هدف تسعى أنقرة لتحقيقه بقوة منذ فترة ليست بالقليلة.

الصدام بين ما تريده أنقرة وما تسعى موسكو لتحقيقه

لكن هذه الرغبة التركية تصادمت نوعا ما مع مخططات الرئيس الروسي، الذي سعى لقلب الطاولة من أجل حث العالم على قبول رغبته في التوصل إلى اتفاق جديد يختلف في بنوده عن اتفاقية إسطنبول، على أن يكون متضمنا عدة أمور تعتبرها موسكو في غاية الأهمية. أولها رفع الحظر الاقتصادي المفروض على بلاده، وثانيها التوقف عن إمداد كييف بالأسلحة والمعدات الحربية المتطورة التي تواجه بها الجيش الروسي، وثالثها إعادة النظر في بنود اتفاقية مونترو الموقعة عام 1936 المنظمة للمرور البحري عبر المضايق والممرات البحرية بما يسمح بحرية تنقل السفن التجارية الروسية المحملة بالمواد الغذائية من الموانئ الروسية إلى العالم.

ولتأكيد حُسن نيته، وعدم رغبته في إيجاد أزمة غذاء عالمية كما تروج له الصحف الغربية، أعلن بوتين عن استعداد بلاده لتوريد حوالي 500 ألف طن من الحبوب خلال الأشهر الأربعة المقبلة بمساعدة تركيا، شريطة أن يتم إيصالها إلى الدول الأكثر فقرا في العالم، وهو ما وافقت عليه أنقرة، التي أكدت أنه سيتم تزويد كل من الصومال والسودان وجيبوتي ومالي بهذه الشحنة الروسية من الحبوب.

اختلاف الأهداف وحساب المكسب والخسارة

اختلاف الأهداف وسبل تحقيقها بين أنقرة وموسكو في هذا المضمار لا يعني خسارة أحدهما للآخر، إذ إن موسكو اشترطت وجود تركيا في كل خطوة تخطوها نحو تحقيق أهدافها، على اعتبار أنها الأكثر موثوقية لديها، لدرجة أن بوتين أعلن أنه حتى وإن خرجت بلاده من اتفاقية إسطنبول فإنه لن يمنع عبور إمدادات الحبوب من أوكرانيا إلى تركيا، لكونها تتعامل بحيادية تامة فيما يخص النزاع مع كييف، وتثمينًا للجهود التي يبذلها الرئيس أردوغان لضمان تحقيق مصالح البلدان الأكثر فقرًا، والأكثر حاجة إلى هذه الحبوب.

مقاربة روسية إيجابية جديدة اتجاه تركيا، تعزز من مكانتها الدولية، وقدرتها على حل النزاعات، ووضع حد للخلافات، خصوصا أنها تأتي في أعقاب مقترح بوتين الخاص بتحويل تركيا إلى مركز عالمي لتصدير الغاز من روسيا إلى أوربا، لكن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من التباعد الذي تشهده العلاقات التركية الغربية عموما، والأمريكية على وجه الخصوص، وهو أمر لا تريده أنقرة وتسعى حتى الآن لتجنبه، إذ إن أردوغان يعي تماما أن مستقبل بلاده يرتكز على العلاقات مع روسيا والصين في المرحلة المقبلة، لكن حاضرها لا يزال يرتبط بصورة أو بأخرى بالغرب والولايات المتحدة، وبالتالي فإن التضحية بهما الآن ليست في مصلحة بلاده.

الثمن الذي يريده بوتين مقابل تعزيز مكانة تركيا عالميا

ومع إدراك الرئيس فلاديمير بوتين أن تركيا أصبحت نافذته الوحيدة الموثوق بها على العالم اليوم، فهو يسعى إلى ضمان أن تظل هذه النافذة مشرعة دوما، وأن يمكنه توظيفها وقتما يريد في تحقيق أهدافه من كل خطوة يخطوها، ومن هنا كان تصريحه الذي قال فيه إن بلاده لم تنسحب من اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية، ولكنها علقت مشاركتها فيه بسبب قيام كييف باستهداف السفن الروسية في البحر الأسود، وتحديدا في الممر البحري المخصص لصادرات الحبوب الأوكرانية.

ثم هدد بخروج بلاده من الاتفاق إذا تم خرق الضمانات التي طلبتها، في إشارة واضحة إلى أن الأمر أصبح يستلزم ضرورة العمل من الآن، خلال المدة المتبقية على انتهاء العمل باتفاقية إسطنبول، على وضع بنود صفقة جديدة حول كافة جوانب الحرب الأوكرانية وتداعياتها، وأن على الدول الغربية والولايات المتحدة الإنصات إلى ما تقوله تركيا في هذا الخصوص إذا كانت تريد استمرار نقل الحبوب الأوكرانية. خصوصا أن وقف نقل هذه الحبوب إلى دول العالم من شأنه أن يعيد إلى الأذهان السيناريوهات الأكثر قتامة التي تنتظر الكثير من الدول والشعوب، والتي منها حدوث مجاعة دولية وأزمات سياسية وأمنية لا يعلم أحد مدى تداعياتها، وإلى أين يمكن أن تصل.

انفتاح أنقرة على تحقيق المطالب الروسية

ويبدو أن تركيا أصبحت أكثر انفتاحا ورغبة في تحقيق طلب روسيا بشأن إعادة النظر في منع السفن الروسية من المرور في المضايق التركية، الذي يبدو أنه الخيار الأمثل أمام تحدي إمكانية إصرار روسيا على عدم تمديد العمل باتفاق إسطنبول، ورغبتها في نقل حبوبها وأسمدتها وزيوتها إلى العالم من خلال الدردنيل والبسفور، خصوصا أن بنود الاتفاقية التي تحمل أرقام 19، و20، و21 تشير إلى أنه يمكن منح إذن بالمرور للدولة المشاطئة في البحر الأسود لتعود إلى قواعدها عند طلبها ذلك.

وسعيًا لتحقيق ذلك بموافقة دولية حثت تركيا دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية على التفاوض المباشر مع موسكو، وفتح الباب على مصراعيه لمباحثات متعددة الأطراف، تتخطى الشق الاقتصادي، ويتسع مجالها ليشمل جوانب سياسية وأمنية وعسكرية، مقترحة أن يتم ذلك في اجتماعات تجمع كلًّا من لندن وواشنطن وبرلين وباريس إلى جانب أنقرة وموسكو بطبيعة الحال.

فهل تنجح المساعي التركية هذه المرة أيضا، ويتم إنهاء مرحلة الحصار الاقتصادي الذي يفرضه الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على روسيا، والسماح لها بإعادة تصدير منتجاتها الزراعية عبر المضايق التركية. يبدو ذلك ممكنا في ظل الإيجابية التي قوبل بها المقترح التركي من العواصم الأربع، والتصريحات التي خرجت من برلين مؤكدة أنه حان الوقت لإيجاد أرضية مشتركة مع بوتين.

المصدر : الجزيرة مباشر