الصحافة وصناعة الخبر

يمكننا تعريف الصحافة ببساطة بأنّها “صناعة” يُحرِّكها أمران؛ المصلحة والتسويق. فلا يتوقف القارئ كثيرًا عند “صحة الخبر وحقيقته، حتّى لو كان المصدر كبرى الصحف وأكثرها مصداقية. كما تؤدي سياسة البلد التي تتبعها الصحيفة دورًا رئيسًا في صناعة الخبر وصياغته.

لنأخذ مثالًا من الصحافة الفرنسية التي نشرت أخبار نابليون أثناء حروبه، فعندما هرب نابليون من منفاه في جزيرة “ألبا” الإيطالية، كتبت الصحافة الفرنسية في عناوينها (الوحش يهرب من إلبا)، وعندما اقترب نابليون من فرنسا، كتبت الصحافة (نابليون يهرب إلى فرنسا)، لكن عندما دخل نابليون فرنسا، كتبت الصحافة الفرنسية (الإمبراطور يدخل البلاد).

فالصحافة كما نرى تأخذ الخبر، تكثّفه، وتقتطع منه، وتصوغه بما يتلاءم وتوجهات “مالكيها” وسياستهم ومصالحهم. فربّما يأتي الخبر ونقيضه في صحيفة واحدة. تبدّل الخبر يتبع تبدّل المواقف السياسية للدولة أو لمالكي الصحف.

صحافة التابلويد

هي نمط من الصحافة التي تهتم بالترفيه والفضائح وحياة المشاهير الذين تتفوق أخبار حياتهم الشخصية على أخبار أعمالهم. هذه الصحافة التي تبنتها السوشيال ميديا أكثر من أي نوع آخر، وخاصة في الفترة الأخيرة التي صارت فيها أخبار “شيرين عبد الوهاب” مثلًا وحياتها مع حسام حبيب أهم من أخبار الحرب الأوكرانية.

متابعو إنستغرام وتيك توك يلاحظون أنّ خبرًا عن شيرين يتابعه الملايين من الناس، ولا يتجاوز متابعو أخبار الحرب بضعة آلاف.

هذه الصحافة تدرك شهوة جماهير القراء سابقًا ومتابعي الميديا حاليًا إلى تلك الأخبار، فيضربون عصفورين بحجر، يُشبعون رغبة القرّاء المتابعين بتقديم أخبار تافهة، بملاحقة المشاهير، والتنصت على حياتهم، ونبش قصص، وتلفيق أخرى ثمّ نفيها، المهم في تلك الحالة هي العائدات المادية للخبر الصحفي.

حرّية التعبير

كلّ ذلك يجعلنا نتساءل: ما حدود حريّة التعبير؟ هل هناك سقف محدد تقف الصحافة عنده، ولا تستطيع تجاوزه؟ ما نطاق سرّية المعلومات الخاصة؟ هل نستطيع وضع حد بين المعلومات العامة المتاحة للجميع والمعلومات التي تخص فئة محددة؟ ما الحد الفاصل بين حق القرّاء في معرفة الحقيقة وحق الأشخاص في سرّية أخبارهم وخصوصيتها؟ ثمّ هل يكفل الدستور والقضاء الحق للمواطن الذي تُنتهك خصوصيته من الصحافة تحت مسمى أحقية القرّاء في المعرفة؟

في بلادنا لا توجد قوانين رادعة، خاصة في هذا العصر الذي اكتسحته التكنولوجيا، الأداة الحادة التي صارت متاحة لكل البشر، يستخدمونها كما يشاؤون تحت مسمّى حرّية التعبير!

في بلادنا لا توجد قوانين رادعة، خاصة في هذا العصر الذي اكتسحته التكنولوجيا الأداة الحادة التي صارت متاحة لكلّ البشر يستخدمونها كما يشاؤون تحت مسمّى حريّة التعبير!

هوس العمق

الكاتب الروائي الألماني باتريك زوسكيند كتب قصة بعنوان “هوس العمق”. القصة تحكي عن فنانة شابة تقيم معرضها الأول، فيكتب عنها أحد الصحفيين بأنّها فنانة موهوبة لكن ينقصها بعض العمق! التقط عبارته تلك صحفيون آخرون، وانتشرت كالنار في الهشيم، وحفلت بها الصحف حتى أصيبت الفنانة بالاكتئاب الذي أدّى بها إلى الانتحار. عندها نشرت الصحافة خبرًا يقول “انتحار فنانة شابة ينقصها بعض العمق”!

هذه القصة تبيّن لنا الآثار الكارثية على ضحايا هذه الصحافة التافهة التي نطلق عليها في بلادنا “الصحافة الصفراء”.

 القارئ الأمّي

لا يقتصر أثر الصحافة التي تكرّس التفاهة على الخبر، بل يتجاوزه إلى القارئ. فتلك الصحافة مهيأة لإنتاج قارئ أمّي، بل هي صنعته فعلًا. عند أكشاك الصحف، كنت في الماضي تلاحظ النهم لشراء المجلات الفنية، وكانت أنواعها لا تُحصى، ففي لبنان وحدها كانت “الصياد” والموعد” ومجلات المسلسلات المصورة المترجمة عن الإيطالية “سمر” وريما” وفوتو ريما”.

تلك المجلات الحافلة بصور المشاهير وأخبارهم، يعود بها هؤلاء إلى بيوتهم ليقرأوا بشراهة عن أشياء لا أهمية لها، بل تساعد في تجهيلهم، وتحييدهم عن أمور الحياة المهمة.

اليوم، اختصرت الميديا المسافات، وتغلبت على مسألة “القارئ المثقف”، فالصورة والصوت احتلا مكان الكتابة، وصار بإمكان أي شخص أمّي أن يشاهد ويسمع، ويصنع هو أيضًا محتوى يقدّمه إلى الآخرين.

الكارثة قادمة

هؤلاء الأميون الذين أنتجتهم الصحافة التافهة أخذوا أماكنهم ببطء وبالتدريج، أصبحوا يُصدرون لنا صحافة جديدة، فهم أميون على درجة خطيرة من التأثير تجاوزت خطورة “الأميين القدماء” الذين لا يعرفون القراءة والكتابة. هؤلاء الجُدد الذين حشوا أدمغتهم بالتوافه هم من يتصدّرون المشهد الصحفي الحالي الذي تحوّل إلى منابر متاحة لا رقيب عليها، ولا ضابط لها، ولا قانون محاسبة.

تعليم الناس القراءة والكتابة لا يُنتج المعرفة إلا في حيّز ضيّق جدًّا، لأجل ذلك نحتاج إلى ثورة للحدِّ من انتشار التفاهة المبثوثة عبر القنوات الفضائية والصحافة والمواقع الإلكترونية. نحتاج إلى ثورة لتعليم الناس القراءة بوعي، وهذا لن يحدث الآن، لأنّ أكثر الناس يقينًا هم أكثرهم جهلًا، لأنّهم على ثقة بأن كلّ ما تنشره الصحف هو حقيقة، ولأنّ الأفق السياسي الحالي للبلاد العربية مسدود بالجهل والتجهيل وتكميم الأفواه، وسحق كلّ فكر تنويري يمكنه أن يغيّر الوضع البائس لاقتصاد البلد وبنيته الاجتماعية المتهالكة.

المصدر : الجزيرة مباشر