الدراما التاريخية.. تحيي التاريخ وأحيانا تصنعه

مسلسل حريم السلطان

تعي الأمم الحية أهمية تاريخها وتضعه نصب أعين أبنائها، بقدر وعيها بالمستقبل تدرك أنه لا يستقر مستقبلها بدون توثيق التاريخ وحفظه، وقد كانت الكتابة قديما واحدة من طرق حفظ التاريخ وتركه للأجيال القادمة تأخذ منه العبرة والقيمة لتخطو نحو الجديد الذي تواجهه أو تصنعه.

قديما قالوا إن المنتصر يكتب التاريخ، ولا تزال المقولة سارية حتى بعد ما نعيشه إذ يكتبه من تصوروا أنهم منتصرون، ودائما يظهر الصراع في أحداث التاريخ بين الكتابة الرسمية والتي تكون لسان حال المنتصر، والكتابة الشعبية التي هي بطبيعة الحال تختلف عن الرواية السابقة.

ولدينا في التاريخ المكتوب أحداث كتبها الطرفان، وما كتابات عبد الرحمن الجبرتي في القرن الثامن عشر وحتى العشرينات من القرن التاسع عشر إلا نموذجا للكتابة الموازية لكتابة السلطة فيما يتعلق بأحداث الحملة الفرنسية على مصر، وكذا أحداث تولي محمد علي السلطة وحتى عام وفاته 1825. ويذكر أن الجبرتي رفض طلب محمد علي أن يكتب كتابا يمدحه.. ومع تطور الوسائل الشعبية للكتابة كانت الدراما السينمائية والتليفزيونية وسيلتين للتعبير الشعبي عن التاريخ.

الدراما جولات ودول

” إن ضاقت بك الدنيا فاذهب إلى قبر الحسين.. وهناك صلي ركعتين” بيت شعر للشاعر المصري فاروق جويدة سمعته منه أول مرة في مدرج كلية الإعلام جامعة القاهرة، ظل هذا البيت الشعري يلازمني طوال حياتي.

كانت كلما ضاقت الدنيا، أنفذ الوصية الرقيقة، وأتجول في القاهرة المملوكية والفاطمية، ثم ابحث في حكايات التاريخ، أفتش في إبداعات عباس محمود العقاد، عبد الرحمن الشرقاوي، خالد محمد خالد، محفوظ عبد الرحمن، ويسري الجندي التاريخية، وأحيانا أجد في كتابات أصدقاء جدد بعضا من المعالجات الجديدة لتاريخ خفي أو اختفى بفعل فاعل.

بينما تأخذ الكتابة التاريخية بعضا من الوقت، كانت الدراما التاريخية تأخذ وقتا أطول. أتذكر قيمة ما تفعله تلك الملاحم الدرامية في وجداني صغيرا، ومن بينها الأفلام السينما وهي قليلة في الإنتاج التاريخي، وكثيرا من الدراما التليفزيونية. قد اهتمت مصر لسنوات طويلة حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بتقديم دراما تليفزيونية تاريخية ثم بدأت تتلاشي، ولايزال رغم كل وسائط التسجيل فإن عدد ما أنتج في الدراما التاريخية في مصر ما زال مجهولا.

بدأت الدراما التاريخية السورية والعربية في الانتشار كثيرا مع بدايات القرن الجديد، وشاهدنا تألقا كبيرا لها إذ قدمت مسلسلات مهمة تاريخيا، ومنها يوسف عن قصة نبي الله يوسف، عمر وهو مسلسل عن السيرة الذاتية للفاروق عمر بن الخطاب، وقمر بني هاشم عن السيرة النبوية الشريفة، مسلسل صقر قريش عن عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، والذي شاركت في إنتاجه المغرب مع سوريا.

بدأت تركيا في الإنتاج الدرامي التاريخي في السنوات العشر الأخيرة، ورغم أن انتشار الدراما التركية عربيا كان من خلال الدراما الاجتماعية، إذ قدمت أعمالا لاقت نجاحا جماهيريا كبيرا، إلا ان العمل الدرامي التاريخي الأول: القرن العظيم والمعروف جماهيريا باسم (حريم السلطان) حقق نجاحا مدويا وهو مسلسل يحكي قصة حياة السلطان العثماني سليمان القانوني، وقدم المسلسل في أربعة أجزاء.

كان نجاح القرن العظيم بابا جديدا تدخل منه الدراما التركية آفاقا جديدة، وتوالت الأعمال التي تقدم التاريخ التركي سواء خلال فترة الحكم العثماني أو التاريخ الحديث، فشهدنا مسلسل السلطان عبد الحميد الثاني وهو سيرة ذاتية عن آخر خلفاء الدولة العثمانية وقدم في جزئين، مسلسل يونس إيمره عن حياة يونس إيمرة وهو شاعر وصوفي تواكب وجوده مع الغزو المغولي وكان بمثابة الأب الروحي للأتراك في هذا الصراع، ثم مجموعة أعمال تركية مثل مسلسل: بربروس، قيامة أرطغول، عزيز، المؤسس عثمان.

توثيق التاريخ أم هدمه

هذا الحرص الذي نراه في كثير من الدول على تقديم تاريخها لأجيالها وللعالم هو جزء من حيويتها الدائمة، والتاريخ ليس مجالا للعب فيه لأغراض سياسية، حتى أننا نجد أن الدول التي ليس لها تاريخ تحاول أن تصنع تاريخا خاصا بها من خلال الأساطير والحكايات الملفقة، فما بالك بأمة تمتلك من التاريخ الطويل عبر مراحلها ما يكفي لبناء وجدان شعوبها وأمتها، وما يجعل الطاقة المعنوية لهذه الأمة قادرة على صنع المستقبل.

لماذا نصارع أنفسنا على تاريخ قديم أو حديث؟ هل هناك صراع تاريخي مع قوى آخري؟ تجعلنا نمسك في تلابيب بعضنا البعض من أجل هدم تاريخنا ومحو فترات تاريخية من حياة أمتنا لتسود هي، لماذا نتخلى عن صناعة الدراما التي توثق أحداث الأمة قديمها على أقل تقدير في الوقت الحالي؟

عندما شاهدت فيلم عمر المختار للمخرج العربي الأمريكي مصطفى العقاد، والذي يحكي قصة حياة المجاهد والقائد الليبي الشهير، كنت اتساءل لماذا لم تشارك الدول العربية في إنتاج الفيلم وتركوا العقاد ينتج الفيلم وحيدا. وفي مشاهد الفيلم عندما طلب المجاهدون من عمر المختار ربط أقدامهم حتى لا يهرب أحدا من مواجهة الإيطاليين كنت أتساءل أي رجال هؤلاء؟ الذين يمشون إلى الموت بمحض إرادتهم، ونفس المشهد أو قريب منه في فيلمه الرسالة، والذي يتناول فترة الرسالة المحمدية، وقصة الدعوة الإسلامية منذ نزول الوحي حتى وفاة الرسول الكريم.

أليس بهذه الأعمال تحيا الأمم، فإن لم تكن لك فاصنعها، ونحن لنا الكثير، ولا أقول سرا إنني أحسست بالغيرة تأكل نفسي وأنا أشاهد مسلسل بربروس الذي انتجته تركيا منذ عام، ليست غيرة حاسدة بل محمودة تجعلني متمنيا أن ننتج كل تاريخنا الإسلامي والعربي ولا نمل من إذاعته على الشاشات العربية.

لقد رحت أفتش في الدراما التاريخية عن إعادة توازن نفسي فكان وقوعي في عشق الدراما التاريخية التركية، فتحت بابا أمامي للتطهر النفسي من آلام أمر بها في سنوات الغربة، وستكون لهذه الدراما وما تبثه من قيم روحية وإنسانية مساحة في الأيام المقبلة، أؤمن أن المشتركات بيننا وبين تركيا كبيرة لذا لم أشعر بغربة في الأعمال فهي جزء أيضا من تاريخي، لكنني شعرت أننا نهمل كثيرا في استمرار عدم تقديم أحداث تاريخنا عندما لا نسعى لتقديم دراما تاريخية.

المصدر : الجزيرة مباشر