لماذا تدير الصين 110 أقسام للشرطة حول العالم؟!

فتح البرلمان الإيطالي مناقشات موسعة، الأسبوع الماضي، حول وجود أقسام للشرطة الصينية تديرها سفارة الصين داخل أراضيها. وعد وزير الداخلية ماتيو بيانتيدوسي البرلمان، الذي يناقش استجوابين موجهين للحكومة حول أقسام الشرطة الصينية في إيطاليا، بفرض عقوبات في حال عدم شرعية وجودها. كشف الوزير عن اتصالات أُجريت بضابط الاتصال بالسفارة الصينية بروما، في مارس/آذار الماضي، وتبيّن أن جمعية ثقافية لمقاطعة “فوجيان” جنوب شرقي الصين، جهزت مقرا إداريا يستهدف خدمة المواطنين غير القادرين على تجديد هوياتهم، وتراخيص أعمالهم في بلدانهم، مستدركا أن الجمعية المذكورة يبدو أنها لا تقدّم في الواقع الخدمات المذكورة.

مناقشات البرلمان لم تأت من فراغ، فقد فجّرت منظمات وطنية ودولية فضيحة مدوية للحكومات الأوربية التي سمحت على مدار 7 سنوات بوجود أقسام شرطة تابعة لوزارة الأمن العام الصينية داخل أراضيها، وانتشار 110 منها في 53 دولة حول العالم.

التجربة الإيطالية

سمحت إيطاليا بوجود 11 قسم شرطة في روما وميلانو وفلورنسا وصقلية. بدأت أعمال الشرطة عام 2016 في إيطاليا، رصدتها منظمات حقوقية وصحفيون استقصائيون، ووثقها موقع (ديكود 39) الإيطالي، والنائب ريكاردو ماجي رئيس حزب (بيو أوروبا). طلب النائب فتح التحقيق في “استخدام القمع العابر للحدود الوطنية” بواسطة المراكز الأمنية حول خطف صينيين معارضين، واستخدام العنف والتخويف لإجبار أشخاص يقيمون في إيطاليا على العودة إلى الوطن.

جاءت التحركات الإيطالية بعد شهر من فتح شرطة أمستردام في هولندا تحقيقات موسعة، حول مركزين للشرطة الصينية مملوكين لمقاطعتي تشجيانغ وفوجيان، يتتبعان أموال المهاجرين بمدينتي روتردام وأمستردام، أنكرت السفارة الصينية في هولندا معرفتها بأعمالهما داخل البلاد.

تلقت السلطات الهولندية المعلومات عبر منظمة “Safeguard Defenders” الحقوقية الإسبانية، فأغلقت القسمين بعد نشر “سيفجارد” تقريرا موسعا في سبتمبر/أيلول الماضي حول إشراف وزارة الأمن العام الصينية على انخراط أقسام شرطة صينية، خلال الفترة من 2018 إلى أبريل/نيسان 2021، لإعادة 230 ألف صيني بعد تعقّبهم في إيطاليا وإسبانيا وهولندا وصربيا ورومانيا وكرواتيا وإيرلندا ولندن وباريس، بالضغط عليهم أو أسرهم داخل الصين بالترهيب أو المضايقة والاحتجاز أو السجن، لدفع ذويهم للعودة إلى الصين.

تنفي الخارجية الصينية ما ذكرته التقارير، مؤكدة أنها مجرد شائعات تُستخدم ذريعة لتشويه سمعة الصين، وأن الأفراد العاملين بالوحدات متطوعون يتولون مساعدة المغتربين في تجديد رخص القيادة، والراغبين منهم بالعودة أثناء الإغلاق الذي واكب انتشار كوفيد-19.

مجرد شائعات

سبق للخارجية الصينية إدانة التحقيقات التي تجريها وزارة العدل الأمريكية منذ يوليو/تموز الماضي، مع أشخاص من أصول صينية، حصل بعضهم على الجنسية الأمريكية، متهمين بالتخطيط لخطف لاجئ، ومحاولة شحنه في صندوق إلى الصين. نبّه الحادث السلطات الأمريكية إلى أقسام الشرطة التي حاولت بيجين إنشاء إحداها في نيويورك، وواشنطن وبالغرب الأمريكي، قرب أكبر جالية قوامها 5 ملايين لاجئ ومقيم صيني دائم، منهم نخبة كبيرة من المعارضين للنظام الشيوعي.

أفاقت الولايات المتحدة لتلك الظاهرة، بعد تكرار قضايا التجسس المتهم بها علماء من أصول صينية، لحساب مخابرات بيجين، العام الحالي. أخبر مدير التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي لجنة الأمن الداخلي أن الشرطة الصينية حاولت إنشاء قسم شرطة في نيويورك دون تنسيق مع الجهات المختصة، كما ذكرت CNN.

وصفت الصين الملاحقات الأمريكية لرجالها بأنها تأتي في إطار “دبلوماسية الرهائن”، التي بدأت منذ أن طلبت الولايات المتحدة من كندا إلقاء القبض على “منغ وانزو” المديرة المالية لعملاق التكنولوجيا هواوي، ابنة مؤسسها ورئيسها رجل المخابرات السابق، في مارس 2019، واستمرت محتجزة رهن التحقيق الأمريكي أكثر من عام، حتى أُطلِق سراحها بصفقة مع واشنطن، في إطار تبادل لصحفي كندي تتهمه الصين بالجاسوسية.

بين غوانتاناموا وبيجين

تعلمت الصين من واشنطن كيف تلاحق خصومها داخل البلاد التي يقيمون فيها، فتعذبهم بأيدي أنظمة صديقة، وفاتَها أن أمريكا تلاحق الخصوم الأجانب، منهم مسلمون بسجن غوانتاناموا، بينما تطارد بيجين المواطنين والفارين من بطش النظام. لم تأت تحولات الصين من فراغ، فقد شرعت في عقد صفقات أمنية مع معظم الدول منذ عام 2015، مستهدفة حماية من يعملون لحسابها وكياناتها في الخارج، وملاحقة معارضي النظام الذين فروا بمليارات الدولارات إلى كندا والولايات المتحدة وأوربا.

بدأت الاتفاقات بإيطاليا، التي سمحت بعمل الشرطة الصينية علنا داخل أراضيها بدوريات مشتركة، من 2016 إلى 2018، لملاحقة متهمين بالرشوة فروا إلى إيطاليا. نجاح التنسيق الأمني بين بيجين وروما ساعد على نقل التجربة إلى المجر وصربيا وباريس، دون أن تنتبه الدول لخطورته، إلا بعد استفحال الخلاف بين أوربا والصين لدعمها روسيا في الحرب الأوكرانية، وبدأت عواصمها تخشى وجود لشرطة تعمل تحت غطاء دبلوماسي داخل أراضيها، بما يهدد أمنها ويقوض نظامها الديمقراطي. طردت بريطانيا منذ أيام قنصلا صينيا تعدى بالضرب على لاجئ من هونغ كونغ، في تظاهرة سلمية أمام قنصلية مانشستر، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

رهائن النظام

استغلت الصين قوتها الاقتصادية لعقد اتفاقات مماثلة مع دول عربية وإسلامية، بدأت بتركيا عام 2016، ومصر 2017، ومن بعدهما المغرب، ورغم التقارب الشديد مع الإمارات، فما زالت تحذر رعاياها من السفر إلى إسطنبول أو دبي دون إذن أمني مسبق. ونشرت قوات شرطية في كينيا وجنوب أفريقيا ونيجيريا. وظفت بيجين قوتها في دفع الدول إلى تتبّع مواطنيها وإلقاء القبض على المعارضين. اعتقلت دول عربية المئات من مسلمي الإيغور وسلّمتهم إلى بيجين في أعوام 2018 و2019 و2022، بزعم انتمائهم إلى جماعات إرهابية. انصاعت دول أملا في دعم اقتصادها المريض، وأخرى تسعى إلى تحالف مع قوة عالمية صاعدة.

تختص سفارات الصين بوجود مكاتب تمثيل للحزب الشيوعي الحاكم، يعمل بها ضباط وسياسيون، تحت ستار دبلوماسي. عادة ما يكون ممثل الحزب المنسق للشؤون الأمنية، ومركز تجمّع الإعلاميين ورجال الأعمال والتنفيذيين، الذين يخضعون لأوامره، وفقا لمبدأ “الكل في واحد، والشعب والجيش في خدمة الحزب”. اختلاط الأدوار لا يمكّن الغرباء من التفرقة بين الدبلوماسيين والمخبرين والمدنيين، وتظهر الفروق عندما تطفو المشاكل أو يختفي رهائن في ظروف غامضة.

المصدر : الجزيرة مباشر