الربيع العربي والحقائق الكبرى

إن الربيع العربي من أنبل الظواهر الاجتماعية والسياسية التي مرت على الوطن العربي منذ أكثر من قرن.. كانت هذه الأيام التاريخية بمثابة زلزال ضرب عروش أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية سواء الملكية منها أو العسكرية، ووصلت ارتداداته إلى عواصم الدول الكبرى التي نصَّبت تلك الأنظمة ودعمتها.
اختبار الشعوب والنخب
الربيع العربي كان اختبارا مزدوجا للشعوب والنخب والأنظمة على السواء.. فكان اختبارا لمدى قابلية الثورة والتغيير لدى شعوب الإقليم، واختبارا للنخب بكل أطيافها في مدى تفاعلها معه كظاهرة ثورية عميقة جاءت إلى المنطقة، كما كان اختبارا لمدى قدرة الأنظمة الحاكمة على التحكم والسيطرة على الشعوب، هذا الاختبار المزدوج تمخض عنه حقائق كبرى يمكن إجمالها في السطور التالية بهدف فحص كيف يمكن خوض المعارك المستقبلية بشكل أكثر نجاحا، وهي:
1- أن ثمة جيلا جديدا ولد في الإقليم من المحيط إلى الخليج يمكن تسميته بجيل التغيير، الذي أصبح يدرك أن سبب الأزمات التي تكتنفه هو أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية وطبيعة حكمها، فكان منه هذا المستوى الرائع من الحراك الشعبي الثوري، وهذا المستوى الذي يفوق الخيال من البسالة والتضحية وهو يزأر بشعار القرن “يسقط النظام”، هذا الشعار الذي يختزل كل شيء في أنه لا بديل عن الإسقاط الكامل والنهائي لهذه الأنظمة بعد فشل عمليات ترقيعها وإصلاحها طيلة عقود.
2- مسارعة أنظمة “الاستبداد والفساد والتبعية” إلى مساندة بعضها بعضًا لإجهاض ثورة شباب الإقليم، بالرغم من الخلافات والتباينات التي كانت بين تلك الأنظمة؛ لذلك فإن كفاح شعب واحد منفردا ضد نظامه المدعوم إقليميا ودوليا لم يكن كافيا لتحقيق النصر.. لم يكن الشعب السوري يقاتل ضد نظام الأسد فقط، ولم يكن المصريون يناضلون ضد مبارك فقط، وهكذا، واجهت الجماهير الثورية العربية في كل حالة قوى متحالفة من دول قوية مثل السعودية والإمارات وإيران وروسيا.. وجميعهم عازمون على سحق الثورة.
3- انكسار حاجز الخوف والرعب لدى شعوب الإقليم وخاصة الجيل الجديد، وبالتالي فقدان الأنظمة لأهم أدوات السيطرة على الشعوب وهي أداة بث الرعب والخوف، وليس أدل على ذلك من ارتفاع مستوى البسالة والتضحية لدى شعوب الإقليم في مختلف الساحات الثورية وموجاتها المتجددة، بالرغم من قسوة المشاهد وسفك الدماء التي مارستها تلك الأنظمة في سوريا وليبيا ومصر واليمن والسودان.
4- انكشاف كذبة “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” التي يدعيها العالم الغربي، وكذلك باقي الشعارات التي رفعتها المنظمات الدولية كحق الشعوب في تقرير مصيرها، وحقها في الدفاع عن نفسها؛ فقد وقفت النظم الغربية وعلى رأسها أمريكا إلى جانب الأنظمة، ضد تطلعات الشعوب في الحرية والعيش الكريم والتخلص من الوصاية السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية.
5- دخول شعوب الإقليم في معادلة الصراع السياسي بعد أن كان محصورا بين الأنظمة من جهة، والجماعات والحركات والأحزاب من جهة أخرى، ووفق هندسة أمنية تصب في صالح الأنظمة.. دخول الشعوب على خط الصراع السياسي قلب المعادلة مما أثار ذعرا وصدمة في دوائر صنع القرار في العواصم الغربية، لا سيما أن الموجة الأولى من ثورة شباب الإقليم أطاحت بخمسة طواغيت من حكام العرب وأسقطتهم من فوق عروشهم.
6- أبطل الربيع العربي إلى حد كبير السحر الأمريكي وهو “مصطلح الإرهاب” الذي خصت به واشنطن المسلمين دون غيرهم، واستخدمت الأنظمة العربية أداة لممارسة أبشع عمليات القمع والتعذيب والقتل والخطف والاغتيالات، فجاءت ثورة الشباب لتضرب هذا السحر في مركزه الأساسي المتمثل في أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية في منطقتنا.
7- كشف الغطاء عن حقيقة المشروع الصفوي الباطني الذي تدثّر بشعار تحرير المسجد الأقصى، ومقاومة الصهاينة، والموت لأمريكا وغيرها من الشعارات المزيفة، فجاء الربيع العربي ليكشف حقيقة تحالف المشروع الصفوي مع المشروع الصهيوني واستخدام إيران جرافة في وجه ثورة الشعب السوري واليمني وقمع الشعبين.
8- انكشاف مدى هشاشة الحركة الإسلامية بكل أطيافها على مستوى الرؤية والتصورات وإدارة الصراع، فلم تتفاعل مع الربيع العربي كظاهرة ثورية عميقة، بل نظرت إليه كفرصة تاريخية للحصول على مكاسب سياسية حزبية ضيقة. وبالتالي نجح الأعداء في توظيفها عكسيا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ضد مصالح الشعوب الثائرة وضد أهداف الثورة.
9- خضوع كمّ كبير من الجماهير العربية للمخلفات النفسية وآثار التوجه والهندسة الأمنية التي مارستها الأنظمة عليها وامتدت لعقود طويلة، وقد انعكست هذه الآثار السلبية على الأداء الثوري لكل المكونات الثورية فى صورة صراع داخلي وعدم ثقة.. صراع حول المصطلحات (دولة مدنية أم دولة دينية)، مما أحدث اختراقات في الصف الثوري وعطل المسار الثوري بصفة عامة ومهد للانقلاب على الثورة كما حدث في مصر.
10- ومن المخلفات النفسية السلبية تعليق نفسيات الشعوب وآمالها على التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، في إدارة ثورتها وتسليم الزمام لها فصدَّق الشعب السوري قصة “أصدقاء الشعب السوري” ومؤتمرات جنيف وأستانا وأخواتها، وصدَّق الشعب الليبي “اتفاق الصخيرات”، وصدق الشعب اليمني ما سمي “المبادرة الخليجية”، وكلها قادتها أنظمة الثورة المضادة برعاية دولية في صورة مبعوثين دوليين! لكأن قضايا الشعوب المسلمة أصبحت فجأة موضع اهتمام القوى الاستعمارية ووكلائها المحليين من الحكام المستبدين.. هكذا علقت الشعوب آمالها لتكتشف مع مرور الأيام أن آمالا قد تعلق بأوهام.
11- فشل الشعوب في إعادة تنظيم القدرات البشرية والمادية، فشلها في الدفع بالقدرات والكفاءات والتخصصات إلى مواقعها المناسبة للالتفاف الشعبي حولها، وفشلها في الدفع بقيادة سياسية موحدة في كل بلد لتحقيق التكافؤ في معادلة الصراع الذي فرضته أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، هذا الفشل سمح للتدخلات الخارجية بأن تفرض نفسها على كافة الساحات الثورية.
12- تخوف النخب العلمانية مما سمته البعبع أي حكم الإخوان وما قد يفعله مرسي والإخوان في المستقبل، خوفهم المستقبلي والمتخيل هذا جعلهم ينسون عقودا من القمع والإذلال والوحشية التي مارسها الجنرالات العسكريون الذين يحكمون مصر منذ سنة 1952، فكان كابوس الإخوان المستقبلي في مخيلتهم وأذهانهم أكثر حضورا من الكابوس العسكري الدكتاتوري الذي يحكم مصر الآن!
13- لهث النخب بكل أطيافها وراء المبادرات الإقليمية والدولية والدوران معها حيثما دارت، فخضعت النخب المصرية للمرجعية العسكرية في إدارة الثورة، وصدقت أكذوبة نجاح الثورة واستقرار الوضع السياسي في مصر، فخضعت العديد من الساحات الثورية لمرجعية المؤتمرات والمبادرات، عوضا أن تجتمع جميع ساحات الثورة وتتفق على المرجعية الثورية والشعبية في بلورة الحلول التي تخدم أهداف الثورة.
14- عجز النخب العربية عن بلورة مشروع جامع تتكامل فيه الساحات الثورية، فلم تستطع أن تتجاوز بعقلها حدود سايكس بيكو، ولم تدرك حقيقة التأثير الإستراتيجي المتبادل بين الساحات الثورية وحاجة كل ساحة إلى الساحات الأخرى.
15- عجز النخب والأحزاب والجماعات، عن مواكبة التغيير الثوري ومتطلباته في مجال إعداد الطاقات البشرية المتخصصة في المسار العسكري والأمني والسياسي والفكري والاقتصادي والإعلامي، لخدمة الساحات الثورية والموجات الثورية المستجدة.
16- أهملت النخب الثورية مراقبة ودراسة أداء أعداء الثورات وهم يصنعون وينفذون إستراتيجيات الثورة المضادة في جميع الساحات الثورية، فلم يفطنوا إلى إستراتيجية “إلغاء الشرعية الثورية والشعبية”، أو “إستراتيجية إعادة إنتاج الأنظمة والعملاء” أو إستراتيجية “رهن الشعوب للخوف والجوع” أو إستراتيجية “الاحتواء المزدوج”، أو إستراتيجية “تغذية النزاعات”.
17- اليأس والإحباط الذي لحق بنسبة ليست بسيطة من القيادات الثورية ويأسها من جدوى المسار الثوري والمدافعة السياسية، فأدى ذلك اليأس بهم إلى الارتماء في أحضان الأطروحات الغربية.
18- غياب العامل الأخلاقي وكيفية تعامل المكون الثوري مع أفراده فضلا عن تعامله مع خصومه، وبالتالي غاب مفهوم مراجعة الأخلاقيات والسلوكيات بعمومها، كما غاب مفهوم النقد العميق الضامن للتجديد.
الحقائق الكبرى
الخلاصة أن الربيع العربي كشف الغطاء عن عدة حقائق كبرى منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي سواء على مستوى الشعوب أو على مستوى النخب والأحزاب والجماعات والحركات أو على مستوى الأنظمة على النحو التالي.
- تعمق أداء الشعوب في مسار البسالة والتضحية وكسر حاجز الخوف، وشهد الربيع ولادة جيل جديد تجاوز الأجيال العاجزة والمستسلمة.
- كما كشف مدى عجز النخب والأحزاب والجماعات والحركات عن مسايرة العمل الثوري ومتطلباته، وعجزها عن أقلمة الثورة والتنسيق بين مختلف الساحات الثورية وإهمال إستراتيجية ربيع عربي واحد، أو عدو واحد ومصير واحد.
- ومع ذلك فقد غرس الربيع العربي بذور الحرية والكرامة في نفوس الملايين لا سيما السياسيين المنفيين في بلدان كثيرة من العالم الذين سيشكلون نواة لحركة ثورية عابرة للحدود تستأنف العمل الثوري المشترك.
- إن أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية لم تفهم بعد أن ثمة قانونا ثابتا يقول افعل ما تريد، لا يمكنك إطفاء الربيع، سيعود دائما.