كتاب حاربه علمانيون أتراك وحاولوا منع صدوره

أحمد آق كوندوز

صدر كتاب بعنوان (القوانين العثمانية وتحليلاتها الشرعية) للأستاذ الدكتور أحمد آق كوندوز، يتحدث عن نصوص القوانين الشرعية في الخلافة العثمانية، في عهد السلطان محمد الفاتح، وهل كان يحكم بالشريعة أم بغيرها؟ وهو كتاب تم محاربة مادته على مراحل عدة: مرحلة طمس هذه الحقائق ونشر غيرها بالمخالفة للواقع، ومرحلة تالية هي محاربة من يقترب من هذا الملف لينشر حقائقه ويبيّن علاقة الحكم العثماني بالشريعة الإسلامية، فما قصة الكتاب؟ وما موضوعه؟ وما أسباب الحرب عليه؟

اتهام الخلافة العثمانية بعدم تطبيق الشريعة

عندما بدأ رئيس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك في تغيير النظام القانوني في البلاد، ليتحول من الشريعة الإسلامية إلى القانون المدني الأوربي، فأخذ وقلّد كثيرًا من القوانين الأوربية في مجال القانون المدني، فاقتبس من القانونين الألماني والفرنسي وغيرهما. إلا أن ذلك لم يتم له، بسبب عدم قبول الشعب التركي المسلم للقانون والنظام العلماني بديلًا عن الشريعة الإسلامية.

وكان مما اتخذه سبيلًا لكي يحقق مراده، محاولة إثبات أن النظام القانوني العثماني الشرعي لم يكن مرجعه الشريعة الإسلامية بل كان مرجعه السلاطين العثمانيين، فيسهل بعد ذلك أن يقبل الشعب التركي هذا التغيير.

وأسهم في نشر هذه الفرية مستشرقون غربيون، وكذلك علمانيون أتراك بل وملاحدة، عبر ترجمة الموسوعة الإسلامية -التي نشرتها جامعة ليدن الهولندية- إلى التركية، وكان هدف الحكومة التركية من الترجمة هو نشر الرؤية الغربية العلمانية عن الشريعة، وكانت تُنشر على أجزاء.

وعندما تُرجمت الموسوعة إلى اللغة التركية عام 1969، قرأ مؤلف الكتاب نصين من الموسوعة، حيث كانت تضاف إليها عند الترجمة فقرات لباحثين أتراك من ذوي التوجه العلماني أيضًا، فقرأ نصين، كان أحدهما يتحدث عن تعريف الفقه، وأنه (بعض القواعد والعادات العربية التي كانت متفرقة ومتقطعة فجمع محمد هذه العادات والعرف ثم سمّاها فقهًا)، وهي مادة كتبها فؤاد كوبرلو.

ثم قرأ الفقرة الثانية من الموسوعة، وكانت لكاتب تركي ملحد اسمه عمر لطفي بارقان، ادّعى فيها أن (الدولة العثمانية لم تطبّق الشريعة الإسلامية، بل السلاطين العثمانيون دوّنوا بعض أقوالهم وأفعالهم كقوانين ومرسايم وفرمانات، ثم كانوا يأمرون فتُنفذ هذه الأوامر، وينهون فيُعمل بتلك النواهي، فهذه هي القوانين العثمانية)، وكتب بارقان مادة من خمسين صفحة، باسم (قانون نامه).[1]

يقول المؤلف “صرخت بعد قراءتي هاتين المادتين، وقلت: هذا كذب، ودعوت الله مخلصًا من قلبي: يا رب هاتان المادتان كذب تمامًا، وعاهدت الله: سأبحث عن القوانين العثمانية وأؤلف كتابًا أثبت فيه أن الدولة العثمانية قد طبّقت الشريعة الإسلامية بتمامها، وإن مارست بعض أخطاء في التطبيقات”.

الرئيس التركي أوزال يحيي الأرشيف العثماني

يقول أحمد آق كوندوز إنه بعد قراءته هذه الافتراءات على الخلافة العثمانية، قرر أن يدرس الفقه الإسلامي، وتطبيق الشريعة الإسلامية في الدول المسلمة، وخاصة الدولة العثمانية، فدرس في مدرسة الأئمة والخطباء، ثم درس بكلية الحقوق وتخرّج فيها.

وفي عام 1986، التحق بجامعة سلجوق في مدينة قونيا، والتقى محافظ إحدى المدن التركية وسأله: هل يجيد العثمانية؟ فأجاب بنعم، فقد علّمه أبوه كل أنواع الخطوط العثمانية، فأخبره أن رئيس الوزراء التركي جلال وكيل، ورئيس الجمهورية تورغوت أوزال قررا فتح الأرشيف العثماني، وأنهما أخذا مئة مرشح للتدريب على قراءة الوثائق العثمانية، وتم تعيين المؤلف مستشارًا خاصًّا في الأرشيف العثماني.

قام بدراسة الأرشيف العثماني، واستخرج منه ما يتعلق بالقوانين وعلاقتها بالشريعة الإسلامية، التي أخرجها لاحقًا في (11) مجلدًا باللغة التركية، وعندما وصل إلى المجلد الرابع، دعاه أحد العلمانيين، الذي ذكر أنه كان مقرّبًا من الدولة العميقة والعسكر في تركيا، فأجاب دعوته، وقال له: سمعت عنك، وعما كتبت في القوانين العثمانية، وكان المؤلف آنذاك في مرتبة أستاذ مشارك، فقال له: أرجو منك شيئًا، ولا أتدخل في ما تقوم به، وحكى له:

إن مصطفى كمال أتاتورك قد دعا بعض الأساتذة على مأدبة عشاء، منهم فؤاد كوبرولو، وعمر لطفي بارقان، وإسماعيل حقي أوزون جارشيللي، وكنت من المدعوين وأنا صغير في السن، فخاطبنا أتاتورك قائلًا: أساتذتي نحن غيّرنا النظام الشرعي الذي كان نظامًا للقوانين في الدولة العثمانية، وأردنا أن نحبب النظام العلماني إلى شعبنا، لكنهم لم يستحبوا ذلك، فلذلك أرجو منكم أن تكتبوا مشروعًا عظيمًا، تجمعون فيه القوانين العثمانية، وتكتبون لها مقدمة واسعة ومفصلة تثبتون فيها بالوثائق أن الدولة العثمانية ليست دولة إسلامية، ولم تطبّق الشريعة الإسلامية، بل هم دوّنوا القوانين من أقوال السلاطين العثمانيين وأفعالهم وأوامرهم ونواهيهم.

يكمل الرجل ذو التوجه العلماني كلامه للمؤلف:

إن عمر لطفي بارقان ليس عالمًا في العلوم الإسلامية، وأنت دكتور آق كوندوز عالم في الفقه، عليك أن تختار بعض القوانين من المجلدات الستة، ثم تكتب مقدمة تثبت فيها أن الدولة العثمانية لم تطبّق الشريعة، ومقابل ذلك نترجم كتابك إلى خمس لغات، وننشرها في العالم، وتكون مشهورًا في جميع الجامعات العالمية. وتأخذ مقابلًا ماديًا لذلك 400 ألف ليرة تركية (بسعر الآن)، وتقدّم إليك ثلاث شركات كل منها 300 ألف ليرة، وتنتقل في عملك إلى جامعة اسطنبول، وتكون في المستقبل عميدًا للكلية ثم رئيسًا للجامعة.

فأجاب المؤلف فورًا في الجلسة نفسها:

لقد أقسمت بالله وعاهدته أن أؤلف كتابًا في القوانين العثمانية، وأثبت فيها أن الدولة العثمانية دولة مسلمة، كان قانونها إسلاميًّا، ورفض اقتراحه وعرضه، فقال له الرجل: لن يستطيع أحد أن يقوم بترقيتك في عملك الجامعي، ولو كان رئيس الجمهورية، ولو أراد نقلك من جامعتك في قونية إلى جامعة إسطنبول فلن يستطيع، وسنمنع ذلك، ثم بدأت الابتلاءات للرجل في عمله، فانسحب من الأرشيف العثماني، وأتم عمله منفردًا، وأصبح عميدًا لكلية الاقتصاد بجامعة كوتاهية، ورئيس الجامعة الإسلامية في روتردام.

تورغوت أوزال يشجع الكاتب ويحمي مؤلفه بمقدمة

التقى المؤلف أثناء عمله تورغوت أوزال، وكان وقتها رئيسًا للوزراء، وعندما علم بمشروعه الذي ينوي القيام به من كتابة القوانين العثمانية وعلاقتها بالشريعة، قال له أوزال: هل أنت مجنون؟ لقد كان لي ثلاثة مشاريع حينما كنت مستشارًا لإدارة التنمية والاقتصاد في الجمهورية، أولها (حرية الديانة)، وثانيها (حرية التجارة والتشبث)، وثالثها (نشر القوانين العثمانية). وأوضح أوزال سبب نيته لهذه المشاريع، فقال: لأننا جميعًا تعلمنا في المدارس والمكاتب الرسمية أنه لا يوجد نظام قانوني للدولة العثمانية، فكيف إذا حكمت الدولة في مليوني كيلومتر مربع من دون نظام؟! فلذلك لا بد من نشر القوانين العثمانية، وقد أحسن الله إليك أن تقوم بهذه الوظيفة.

ثم قال له تورغوت أوزال: هل تعرف أنك ستغيّر نظرة الناس إلى الدولة العثمانية في التاريخ والدين والقانون بهذا الكتاب؟ لكنك ستعاني كثيرًا من المصائب، بل قد يقومون بنفيك من البلاد، وسحب الجنسية التركية منك، فلذلك أريد أن أكتب مقدمة لكتابك حتى يحفظك الله من كثير من المصائب، وكتب أوزال فعلًا مقدمة للكتاب في صفحة، مشيدًا به وبالجهد المبذول فيه، وبالتاريخ العثماني الزاخر بالكنوز، وبالمفاخر التي يتباهى بها كل تركي.

أهمية الكتاب

كتاب (القوانين العثمانية وتحليلاتها الشرعية) ومعه: نصوص القوانين الشرعية في عهد محمد الفاتح، تكمن أهميته في أمور عدة، فهو رصد تاريخي ووثائقي مهم لحكم استمر قرونًا، وناله نصيب من التشويه من العرب والعجم.

وتحوي تلك القوانين التي دوّنها الكتاب، جانبًا مشرقًا ومهمًّا في تاريخنا، وهي: قانون التشكيلات الإدارية بشأن تنظيم دولة عظمى المتضمن قواعد يمكن اعتبارها نموذجًا حتى في عصرنا الحاضر، كما تحوي أقدم قانون لتنظيم ملكية الأرض في العالم (الطابو) الذي انبثق عن العقل الإسلامي. ويحتوي على أقدم قانون في العالم ينظم الجمارك وأسس الصادرات والواردات (التجارة الخارجية)، ويحوي أيضًا أقدم قانون للمعادن والمناجم، ويحدد ساعات العمل بثماني ساعات، ويبيّن قواعد العمل بالتناوب، ويرتب التدابير المتعلقة بحماية العمال في المناجم من الأضرار، بما يُسمى الآن (قواعد الأمن الصناعي)، وغير ذلك من الأمور التي نراها في الكتاب.

هذه التفاصيل كلها مدونة بوثائقها العثمانية، التي تدل على عقلية القانوني المسلم، ولذي سبق القانون الغربي آنذاك، بل كان وقتها يستقبح ما يسنّه العثمانيون من قوانين، يباهي بها الآن. وليس معنى ذلك خلوّ الحكم العثماني من أخطاء، فهذا أمر مفروغ منه، لكن المهم عدم تجاهل إنجازات هذه المرحلة، وعلى رأسها، مرحلة القوانين واستمدادها من الفقه الإسلامي وشريعته، وهو ما قام به خير قيام الدكتور أحمد آق كوندوز في كتابه، الذي اختصره من موسوعته (11) مجلدًا، إلى مجلد واحد باللغة العربية في نحو (973) صفحة، وأصدره وقف البحوث العثمانية في تركيا منذ أشهر، وهو جهد مهم، نتمنى أن يكتمل بإخراج ما تبقى من كنوز في الأرشيف العثماني من كتابات في الفقه والتجديد الفقهي السياسي والإداري، في قرون عدة خلال الحكم العثماني.


[1] كلمة (قانون نامه) كلمة عثمانية، مكونة من كلمتين مقتبستين من اللغة العربية والفارسية، فقانون أصلها عربي، ونامه أصلها فارسي، ومعناها: كتاب أو ورقة أو رسالة، ومعناها: ورقة قانون، أو لائحة قانون، وهي مجموعة نصوص قانونية.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان