ألعاب بيجين.. من أزمة أخلاقية إلى “أولمبياد الإبادة”

أراد رئيس الصين شي جينبنغ أن تكون أولمبياد بيجين الشتوية 2022 للرياضة بعيدة عن السياسة. رفع الحزب الشيوعي لافتات على جوانب الطرق في المطارات والقطارات، وممرات الوصول المعزولة كأنابيب الأنفاق، حيث العيش في فقاعة كبيرة داخل القرية الأولمبية تحمل شعارات “نتشارك المستقبل معا” و”أسرة واحدة.. مستقبل واحد”. مع اللقطات الأولى قبيل حفل الافتتاح، يوم 4 فبراير/شباط الجاري، وجدنا فجوة كبيرة بين الكلام والواقع.

عقد شي اجتماعا مطولا مع الرئيس الروسي بوتين قبيل افتتاح الأولمبياد، خرج منه بتحالف استراتيجي جديد لمواجهة الغرب والدول التي تدور في ركابه. حرص شي على جلوس بوتين بجواره والتصوير السريع مع رؤساء وقادة 30 دولة شاركوا في الحفل، يمثل معظمهم -وفقا لمؤشر مجلة إيكونوميست للدول الديمقراطية عن عام 2021 الصادر الخميس الماضي- “دولا استبدادية” من أفريقيا وآسيا وبلاد العرب، أو “أنظمة هجين” لديها نظام ديمقراطي لكنها تتجه إلى الاستبداد، بعضها في أوربا كالمجر وأمريكا الجنوبية كالبرازيل.

منح شي دعمه غير المشروط لبوتين الذي يقود نظاما قمعيا بامتياز، أدى إلى تراجع الحريات واقتصاد روسيا إلى المرتبة الثالثة عشرة في مجموعة العشرين، فأصبح اقتصاديا أقل من كوريا الجنوبية، ويعتمد ناتجه القومي الذي بلغ تريليون و484 مليار دولار على بيع ثرواته النفطية والمعادن، بينما الصين التي كان يساعدها عسكريا وأثناء المجاعات، أصبحت تنتج 21% من الناتج الاجمالي العالمي، بفارق 10% فقط عن الولايات المتحدة، وفقا لتقديرات البنك الدولي.

يحاول الحليفان فرض نظام عالمي جديد، رغم تخليهما عن الشيوعية الاقتصادية، وتبنّيهما الأدوات الرأسمالية، من أجل رفع الاقتصاد ومستوى المعيشة. مع عدم امتلاكهما أدوات بديلة لقيادة العالم حتى الآن. وصفت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية لقاء شي وبوتين، بأنه “تحالف لجعل العالم مكانا آمنا للديكتاتورية”. لا يهتم رئيس الصين عادة بما يقوله الإعلام الغربي، حيث يعد الهجوم ضده حافزا لمواجهة معارضيه في الداخل بكل قسوة، ودافعا لاستنفار أنصاره الذين يحاربون من أجله بجنون. يكتفى شي بما خرج به من اللقاء، حيث ضَمِن شراء نفط وغاز من روسيا للسنوات العشرين القادمة بمبلغ 117.5 مليار دولار، بينما فاز عدو الأمس بدعم سياسي ومالي كبير.

عصابة الأربعة

من مفارقات القدر أن التحالف الروسي الجديد المعلن على هامش الأولمبياد، جاء مواكبا لمرور 50 عاما على زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون التاريخية إلى الصين في فبراير/شباط 1972. تمت الزيارة بعد حملة قمع واسعة بدأها الزعيم ماو زي دونع، ومن بعده عصابة الأربعة، لإبادة المعارضين باسم التطهير الأيديولوجي، وحدوث مجاعات. كانت الصين تخشى الغزو الروسي لمناطقها الشمالية، بينما كان نيكسون ومعه وزير خارجيته هنري كيسنجر، يؤمنان بأن الصين الضعيفة من شأنها أن تزعج الاتحاد السوفيتي وتقوضه -وهو ما حدث بالفعل- وتندمج مع الغرب إذا حدثت تحولات اقتصادية، توفر للناس مأوى جيدا وتعليما متطورا يبعدهم عن معتقداتهم الماركسية. اعترف نيكسون بوحدة الصين، ومنح بيجين مقعدها المعطل في الأمم المتحدة. تبدلت المواقف بعد 50 عاما، وانقلب السحر على الساحر، فاليوم يؤمن شي أن الصين يجب أن تكون القوة الأولى في العالم، ويتهم الولايات المتحدة والغرب بأنهما يعملان على إبطاء مشروع “النهضة العظيمة” الذي يريده للصين خلال سنوات معدودات.

كان طبيعيا أن ينسق شي جينبنغ مع مزيد من الأنظمة الاستبدادية، والطغاة من المنطقة العربية، الذين يقدم لهم الدعم المالي والدبلوماسي والحماية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مقابل تأمينهم مصادر الطاقة والموارد الأولية للصين، وفتح أسواقهم أمام بضائعها، وتنازلهم عن الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان، ونسيان حملات الإبادة التي يقودها ضد المسلمين الإيغور في شينجيانغ (تركستان الشرقية). يحمل شي جينات النخبة الصينية التي ترى أن الازدهار الاقتصادي هو السبيل “لتحقيق الحضارة والحكم الرشيد والأمن والسلام”، وهي الشعارات الرنانة نفسها التي تبناها قادة الاستبداد حاليا في المنطقة.

ملاحقة الحزب الشيوعي

وظفت الصين قدراتها المالية لمنع اللجنة الأولمبية من مناقشة طلبات منظمات حقوق الإنسان، والآثار الأخلاقية أو السياسية لعقد الأولمبياد في دولة “استبدادية”، بما دفع كتّابا كبارا وسياسيين بارزين إلى التساؤل: “كيف يرتضي اللاعبون التزلج على الجليد دون الالتفات إلى الندبات على ظهور الأبرياء المسجونين في المعتقلات الواقعة بالقرب من الملاعب الأولمبية؟!”.

حصلت اللجنة الأولمبية على 7.75 مليار دولار بما يوازي 73% من إيرادات بث الألعاب حتى عام 2032. وجهت الصين 13 شركة راعية للأولمبياد بدفع مليار دولار، وحذرت 4 شركات منها أبدت رغبتها في الانسحاب بسبب إنتاج القطن ومعدات تكنولوجية بمعسكرات العمل القسري للمسلمين الإيغور، التي رصدت الأقمار الصناعية استمرار العمل بها الشهر الماضي، فتراجعت وأبدت أسفها عمّا بدر منها، خوفا من ملاحقة الحزب الشيوعي لمتاجرها.

أمرت يانغ شو -نائب اللجنة المنظمة للأولمبياد في بيجين- الرياضيين بعدم التحدث إلا في الأمور الرياضية، والتعبير عن رأيهم بالتصفيق وليس الهتاف “تحسبا لانتشار الوباء”! ورغم أن احتجاجات الرياضيين الأولمبية نادرة، حيث يفضلون الانشغال بإنجازاتهم، وإن كانوا يتعاطفون مع حقوق الإنسان، أو يواجهون دولا معادية لهم مثل حالتي أوكرانيا وروسيا، فإن رئيس اللجنة الأولمبية توماس باخ قال للرياضيين “يجب على الرياضي عدم تعطيل حدث أولمبي للإدلاء بأي بيان سياسي”. وتغاضت اللجنة الأولمبية عن المخاطر الطبية والبيئية في ملاعب أنشئت بنسبة 100% من الثلج الاصطناعي، على جبال قاحلة بالقرب من بيجين. تحمل الثلوج مواد كيماوية تُلقى في وجه اللاعبين بواسطة 300 قاذفة للثلج الاصطناعي، بلغت تكلفتها 60 مليون دولار، تهدر 49 مليون جالون مياه على متزلجات حولها، في مناطق لا تتوافر بها الحدود الدنيا من المياه للفرد سنويا، طبقا لتقديرات الأمم المتحدة.

أقام شي الأولمبياد وفقا لشروطه، فاختار رياضيا مغمورا من الإيغور لإضاءة الشعلة الأولمبية في حفل الافتتاح، ترافقه فتاة من الهان (تشا جيا ون)، وظهر في العرض شاب من قومية القازاق، ضمن ممثلي 56 قومية عرقية من الأقليات. أراد شي أن يظهر قائدا للعشيرة الصينية، يوظف الشاب الإيغوري -أخبرني أقرباؤه بأنه من مدينة أورمتشي وأن والده يعمل لدى الحكومة الصينية- لـ”كسر أكاذيب الداعين لمقاطعة الأولمبياد” فإذا بالضربة ترتد إليه في حملات دولية ساخرة، تتهمه بـ”محاولة تبييض الوجه وغسل سمعة أولمبياد الإبادة” التي يمارسها ضد شعب الإيغور في تركستان الشرقية. زاد الأمر سوءًا، حينما اختار الجيش الصيني العقيد (تشي فا باو) لحمل شعلة الأولمبياد في مرحلتها الأخيرة، تكريما له بصفته ضابطا مقاتلا بجيش التحرير الصيني، رغم اتهامه بقتل جنود هنود على الحدود بين البلدين المتصارعين حول مناطق عدة بجبال الهيمالايا. رأت الهند هذه الخطوة إهانة لها، فأمرت وفدها الرسمي بمقاطعة الأولمبياد.

إصابات بكورونا

تسببت الإجراءات المشددة حول اللاعبين -بعد ظهور حالات تفشي الوباء في هونغ كونغ وبايسه ومناطق أخرى عديدة وإصابة 32 لاعبا حتى الخميس الماضي بكوفيد 19- في فرض حصار بغيض على اللاعبين والوفود والصحفيين، فاتصل العشرات منهم، كما صرحت مديرة منظمة هيومن رايتس ووتش المسؤولة عن الصين “يشكون القسوة والحصار الذي يعانون منه”.

أدت الشكوى إلى مسارعة بيجين بتقديم تنازلات طفيفة للاعبين بتجهيز إنترنت غير مراقب بجوار ملاعبهم، والسماح لهم بالتعبير عن رأيهم في تلك المناطق وعلى صفحاتهم بوسائل التواصل الاجتماعي الموجهة لخارج الصين فقط. فشلت السلطات في منع اللاعبين من رفع علم الإيغور الذي وضعوه فوق قبعاتهم. تحولت الحركات الاحتجاجية إلى قصص خبرية إنسانية تلقفتها أجهزة الإعلام الدولية، نقلا عن الهواة الذين تمكنوا من تصويرها في الملاعب، أو الصحفيين المحظوظين الذين تصادف وجودهم في موقع الحدث.

نظم ممثلو القوميات التي تتعرض للإبادة والقمع، مظاهرات واسعة في أغلب الدول الأوربية والولايات المتحدة وأستراليا واليابان، وأمام مقر اللجنة الأولمبية في سويسرا، في تحالف ضم تجمعات كبيرة من الإيغور والتبت ومنغوليا الداخلية وهونغ كونغ وأتباع عقيدة “الفالون غونغ” للتأمل. رفع المتظاهرون شعارات تدعو لمقاطعة الأولمبياد وعدم متابعتها، وعدّوا من يشارك فيها “غافلا عما يفعله الديكتاتوريون”. وجهت الصين مليارات الدولارات لأجهزتها الإعلامية وسفاراتها وشخصيات مشهورة مدعومة بالخارج، للحد من تأثير تلك الحملات دون جدوى. حتى الدول التي حضرت الاحتفالات لم تهتم إلا بلقطات حضور قادتها، وبعض المسابقات، لأن ألعاب الأولمبياد الشتوية -التي لا يشارك فيها لاعبوها- خارج اهتماماتهم. فالقصص الإنسانية المصورة والوثائقية المتسربة من الداخل حول “الأصوات المكتومة في التبت” و”تجاوز الخوف” للمحامي الناشط في حقوق الإنسان (جاو زي شينغ) المعتقل منذ 2017، وقصة “رحيمة” للمخرج الإيغوري مقدس ماجد، وفيلم” قسمي” للحالمين بعودة الدلاي لاما إلى معبده في التبت، وقصة “المراهق الذي تحدى القوة الصينية الخارقة” في هونغ كونغ للمطالبة بحرية التعبير، تحولت وغيرها إلى قنوات شعبية دولية ووسائل التواصل الاجتماعي.

تحدي التنين

توسع الصين حملاتها القمعية منذ سنوات، ومع ذلك أثبتت المعارضة أنها قادرة على تحدي التنين. يسعى الحزب الشيوعي وعلى رأسه قائد العشيرة شي جينبنغ إلى دعم اعتقاد لدى الشعب، بأنهم يعيشون في الدولة الفاضلة الوحيدة على هذا الكوكب، بينما يخفي طابعهم الأمني ارتيابهم من تهديدات ومخاطر في كل مكان، فإذا لم تأتهم من الوباء والغلاء، فهناك صراع دفين بين الشرق الغني والغرب البائس، وبين الفقراء والأغنياء، وبين الأقليات والأغلبية الحاكمة، التي تريد محو لغاتهم وثقافاتهم وأديانهم لصالح ماركسية لينينية عقيمة، ما زال يؤمن قادة الحزب الشيوعي بأنها السبيل الوحيد لقمع تلك المخاطر في كل الأوقات.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان