بيان التنحي والتكليف.. ما بين البقاء والخروج من الميادين

بيان التنحي

تقترب الساعة من السادسة، وأذان المغرب يقترب، اقترح صديقان كانا صائمين في ذلك اليوم الذهاب إلى أقرب مقهى لتناول الافطار، كان ذلك يوم الجمعة الحادي عشر من فبراير/شباط 2011، كان ميدان التحرير وميادين أخرى بطول الوطن وعرضه قد امتلأت بالمتظاهرين والثوار، ومنذ فجر ذلك اليوم تحركت مجموعات كبيرة نحو القصر الجمهوري (الاتحادية) ومبنى الإذاعة والتلفزيون، بينما ظللنا طوال اليوم نتلقى شائعات وأخبارا سُربت إلى الميادين عن رحيل مبارك إلى شرم الشيخ، وهروب عديد من رجال السلطة والمال والنفوذ.

بينما كانت الأنفاس في الميادين قد طالها التعب (عيب كبير لدى المصريين النفس القصير)، وأصبح الجميع على مقربة من اليأس، توجهنا إلى المقهى، ونحن نطلب من الصائمين أن يدعوا ساعة الإفطار برحيل مبارك، وبينما يبحث الصديقان عمّا يكسر الصيام، أطل عمر سليمان ليعلن “تخليه عن السلطة وتكليف المجلس العسكري بإدارة شؤون البلاد”.

انفجار الميادين

انفجرت الميادين والمنازل بالفرحة والزغاريد، وتدفق إلى الميدان الملايين من سكان حزب الكنبة (واسم الله عليه.. اسم الله عليه.. عاشور الناجي.. اسم الله عليه) تلك عادة الحرافيش، و(ارفع راسك فوق إنت مصري) وأبواق سيارات وأحضان وهتافات وكأن كابوسا كبيرا ضخما وحجرا ثقيلا قد أزيح عن صدر مصر.

نعم كان مبارك همّا ثقيلا على المصريين، ثلاثون عاما من الفساد والاستبداد والقهر، تزايد بصورة مكثفة في سنواته الأخيرة، وكانت انتخابات مجلس الشعب 2010 قمة الإفساد ومؤشرا على القادم برعاية (جمال مبارك – أحمد عز). أتذكر حينها أن أحد المسؤولين حدثني عن ترشحي وتسويد الصناديق، فقلت: “أنا عايزها صناديق بيضاء” وما زلت أتمناها هكذا.

في لحظة بيان التنحي والتكليف، لم يفكر أحد في محتواه، ولا معنى التخلي والإسناد، من يُجبر على التخلي لا يحق له التكليف، وإلا أصبح غير متخلٍّ، ويحق له أن يراقب من كلّفه، ويصح له أن يلغي تكليفه، لكنه الإرهاق والتعب والملل، فقد خرج من الميدان أناس وملّوا قبل البيان بكثير، تفاوضوا وجلسوا وشكّلوا ائتلافات كثيرة تعدت المئة برعاية النظام الذي يثورون عليه، واستغل النظام هذا التهافت وسقف الطموح المنخفض، ليدير أكبر عملية تشوية للثورة والثوار، بعد أن وجد كثيرا من الانتهازيين ليكوّن بهم كيانات تدعي أنها الثورة، أذكر أنني شاهدت لقاء مع بعضهم في برنامج (البيت بيتك) بالتلفزيون المصري، وصرت أسال نفسي: من هؤلاء؟

عودة عجلة الإنتاج

تخلى مبارك أو تنحى، وكلف أو أسند إلى أهم كيان في دولته إدارة البلاد، ولم نهتم بالمحتوى وأخذتنا السكرة ولم تأتِ الفكرة إلا بعد وقت طويل، وتعالت الصيحات للخروج من الميادين والعودة إلى البناء والعمل، وعودة عجلة الإنتاج (لم تعد حتى الآن، إن لم تكن توقفت) وظهرت أصوات قليلة صادقة “لا تتركوا الميادين.. النظام لم يسقط بعد” لكنها تاهت مع سقف مطالب كان منخفضا جدا، قلت يومها إن من تخيّلنا أنهم زعماء كبار يمكن أن يقودوا وطنا كان طموحهم أن يكونوا نوابا بمجلس الشعب، لم يكن لديهم خطة لإدارة شؤون البلاد كما كان للذين تم لهم التكليف، ثم كانت المتاهة!

متاهة بدأت بعد يوم أو اثنين، وفي ثلاثة من أيام الجمعة المتتالية للتنحي (جمعة النصر وجمعة الانتصار وجمعة الاحتفال)، قبلها كان الشباب ينظفون الميادين ويطلون الشوارع بألوان علم مصر، ويصالحون أفراد الداخلية ويعيدون عجلة الإنتاج، وبقي في الميدان من يظنون أن الثورة لم تكتمل، وأن نصف ثورة مقبرة للشعوب (لم أخرج من ميدان التحرير حتى 24 يونيو/حزيران 2012، يوم إعلان فوز محمد مرسي برئاسة الجمهورية). وللحقيقة فقد خرج رفاق مرسي وجماعته مبكرا جدا جدا، ثم بدأ التيه الأكبر، الاستفتاء على تعديلات دستورية في 19 مارس/آذار 2011، أول مسمار في نعش يناير، وحدث الانقسام الكبير، وكنا نصرخ “الدستور أولا” ولا مجيب، “مجلس رئاسي” ولا أحد يسمع -لا استثناء هنا لأحد، فالكل كان لا يسمع لا يرى لا يتكلم، فالوليمة كبيرة والأطماع أكبر- أما من في الميادين فهم أفراد ليس لهم كيانات.

ثم جاءت الجمعة 8 أبريل/نيسان 2011، التي ظهر فيها ضباط من القوات المسلحة، وكانت ليلة سوداء على كل من شهدها، فقد ظهر للمرة الأولى الوجه القبيح، وفي الليل تم اعتقال الضباط المتضامنين، وفي صناديق القمامة وجدنا بقايا جثث لمجندين، ولم يتوقف قطار التطبيع مع المكلفين، فالكل مشغول بالانتخابات بعد استفتاء (الجنة والنار)، ثم جاءت جمعة الشريعة، وجمعة وثيقة السلمي، وجمعة الدستور أولا، وغيرها. وحدثت مذبحة محمد محمود، ولكن كيانات السياسة مشغولة بالسياسة، ثم أحداث مجلس الوزراء، ولكنهم مخربون (وأحمد دومة حرق المجمّع)، ورجال السياسة في معاركهم السياسية يطمعون في السلطة، ويلاعبهم المكلفون بطرقهم الملتوية مع الجميع.

أتساءل، ولك حق كامل في التساؤل: لماذا أعدد معكم كل هذه الآلام؟ هل هي مجدية؟ أتراني أستجدي ماضيا قريبا محزنا أم أسعى إلى غد أفضل؟ أقول إننا لا بد أن نتصالح مع التاريخ قريبه وبعيده، ونتصالح مع فصائل الوطن قريبها وبعيدها، وكي نتصالح ينبغي أن نتوقف عند أخطائنا جميعا ونعترف بها، لنبني على أسس ناضجة، نبني غدا قد يكون قريبا وقد لا نراه، ولكن علينا السعي نحوه.

تنحى مبارك، لكنه عندما تنحى كلّف أذكى منظومة في حكمه، استطاع الذي كلّف أن يدير معاركه بطرق سليمة، أجاد التعامل مع الجميع، لعب على أوتار الطمع والسيطرة والاستحواذ لدى الجميع، وأوصل سفينة مبارك إلى برها الآمن للثورة المضادة، والدولة العميقة ومن يساندها ويجعلها وسيلة لأهدافه، أما نحن فلم نستطع قراءة بيان التنحي سنوات طوالا، كانت كفيلة بوصولنا إلى المقبرة!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان