الله تعالى هو الذي قدّر أن نعصيه، وكتب علينا أن نرتكب الذّنوب؛ فكيف يعاقبنا؟!
عدّل صديقي من جلسته وشدّ عوده قائلًا: إذا كان الله تعالى قد كتب علينا أن نعصيه، وقدّر علينا المعصية، ومعاصينا مكتوبة في اللّوح المحفوظ، فكيف يعاقبنا الله تعالى على ارتكاب معاصي كتبها وقدّرها علينا وارتكبناها بإرادته؟ أين العدلُ في هذا؟ لماذا لا يمنع الله عبده من فعل المعصية؟ هل المعاصي من قدر الله؟ لماذا يحاسب الإنسان على أشياء كتبت عليه قبل ولادته؟ هل عرض الله علينا الحياة قبل أن يخلقنا؟
هل نرتكب المعاصي بإرادة الله مجبرين عليها؟
يا صديقي الحبيب: دعنا نفكّر معًا لنصلَ إلى الإجابات الشّافية، ودعني أسألك ابتداءً؟ هل يمكن أن يقع شيءٌ في الكون من دون إرادة الله تعالى؟ فإن قلت لي: نعم هناك ما يقع دون أن يريده الله تعالى، فهذا يعني أنّه حدث بالإكراه على الله عز وجل، فهل يستحقّ عندها أن يكون إلهًا إن وقع شيءٌ في الكون على خلاف ما يريد وبإكراه عليه من أحدٍ من خلقه؟ فلو أنّ إنسانًا ما أرادَ أن يسرق أو يشرب الخمر أو يؤذي أحدًا بيده أو لسانه، فإنّ هذا الفعل إمّا أن يتمّ بإرادة الله تعالى أو لا، ولكن لو قال أحدٌ من النّاس: إنّ هذا السّارق سرق بغير إرادة الله تعالى لكان قد سرق إكراهًا على الله تعالى فكيف يكون إلهًا من يفعل خلقه أفعالًا يكون مكرهًا عليها؟ قال صديقي: طبعًا لا، ولا أتخيّل حدوث شيءٍ في الكون بغير إرادة الله.
إذن فلنتفق يا صديق أنّ إرادة الله تعالى في الكون إرادةٌ مطلقةٌ لا تشوبها شائبة الإكراه من مخلوق على الإطلاق، فلا يجري في الكون شيءٌ في الكون إلّا بإرادة الله تعالى ومن ذلك معاصينا وذنوبنا التي نقترفها ونرتكبها، وهنا يأتي السّؤال المهمّ يا صديقي وهو هل إرادة الله تعالى تعني أنّنا نرتكب الفعل بغير إرادتنا؟ وهل إرادة الله تعالى تقتضي أنّنا مجبرون على القيام بأفعال كالمعاصي مثلًا؟
اقرأ أيضًا: لماذا يعاقبنا الله تعالى على مخالفة أوامره وهو غنيٌّ عن عقابنا؟ أليس هذا من الظلم؟!
كيف يحاسبنا الله تعالى على المعاصي وقد كتبها علينا؟
هنا دعني أقل لك: إنّ أفعال الإنسان التي تجري وتقع كلّها بإرادة الله تعالى تُقسم إلى نوعين اثنين:
النّوع الأول: نوعٌ لا اختيار للإنسان في فعله على الإطلاق، وهو ما يتعلّق بخلقه وزمان ولادته ومكان ولادته ونموّه الجسميّ وشعوره بالألم عند المرض وقبض روحه عند موته، ومثل ذلك كثير، وهذه الأشياء والأفعال لا اختيار للإنسان فيها على الإطلاق، وهي تحدث بإرادة من الله تعالى وحده والإنسان لا يملك أيّة إرادة فيها.
النّوع الثّاني: أفعالٌ تصدرُ من الإنسان من خلال اختياره هو، وبناءً على قراره الشّخصيّ، وهي تصدرُ بناءً على مَلَكةٍ أودعها الله تعالى في الإنسان ومتّعه بها يمكن أن نسميها ملكة اتّخاذ القرار، أو مَلَكةَ الاختيار، فكلُّ واحدٍ منّا هو الذي يتّخذ القرار للقيام بالفعل، ويختار ارتكاب الفعل، فهو الذي يختار ويقرّر وينفّذ.
مثلًا ذهابك يا صديقي صباحًا إلى جامعتك، فأنت من تقرّر وتختار الذّهاب من عدمه وعندما تختار الذّهاب فأنت تنفّذ ذلك، ومثل ذلك ذهابك إلى المسجد لأداء الصّلاة، ومثل ذلك فعلك للمعصية وارتكابك الذّنب؛ فأنت من تختار أن تضربَ فلانًا ظلمًا أو تؤذي فلانةً بلسانك، أو تمدّ يدك إلى حقيبة زميلك سارقًا، أو تصبّ كأسًا من الخمر وتشربها.
اقرأ أيضًا: إذا كان الله تعالى غنيًّا عن عباداتنا؛ فلماذا نصلّي ونصوم ونؤدّي العبادات؟
هل الله قدر علينا المعاصي؟
حديثي معك يا صديقي عن هذا النّوع من الأفعال التي اخترتها أنت وقرّرتها بنفسك ونفّذتها أيضًا باختيارك، فانتبه جيّدًا إلى أنّ الله تعالى أراد لك أن تكون مختارًا، وأراد لكَ أن تكون حرًّا في قرارك، وأراد لك أن تكون قادرًا على التّنفيذ بإرادتك الذّاتيّة، فأنت اخترت الطّاعة وأنت قرّرت القيام بها وأنت نفّذتها بحريّتك واختيارك، وكذلك المعصية فأنت تختارُها وأنت تقرّر القيام بها وأنت تنفّذها بحرّيتك، وقدرتك على الاختيار وقدرتك على القرار وقدرتك على التّنفيذ هي ما يتعلّق بإرادة الله تعالى، فلو أنّك اخترت شرب الخمر وقرّرت ذلك ونفّذته، فأنت تكون قد شربت الخمر باختيارك وقرارك وتنفيذك الذّاتيّ، وقدرتك على اتخاذ القرار بحريّة واختيار وتنفيذك لقرارك بحريّة واختيار يكون داخلًا في مراد الله تعالى، وهكذا تكون إرادة الله تعالى غير متوجّهةٍ على الإطلاق للتأثير في اختيارك، ولا تعني على الإطلاق أنّك اتّخذت القرار بغير حريّتك التّامّة واختيارك التّامّ وقرارك وحدك وتنفيذك وحدك.
العلم المطلق لا يعني الإكراه على المعصية
يا صديقي من قال لك: إنّ معنى ومقتضى أن الله تعالى كتب عليك ارتكاب المعصية أنّها تمّت بغير إرادتك وأنّه تعالى أجبرك على ارتكابها؟
إنّ الخلل هنا في فهمك لمعنى أنّ الله تعالى كتب عليك ارتكاب الفعل أو قدّره عليك أو سطّره في اللوح المحفوظ وتوهّمك أن هذا يقتضي أنّه أجبرك على القيام بالفعل.
دعنا نتّفق أولًا أنّ الله تعالى صفاته مطلقة ولا يدخل فيها النّقص، فلو أنّ النّقص اعترى أيّة صفةٍ من صفاته لما استحقّ أن يكون إلهًا.
من صفات الله تعالى العلم، فهو عالمٌ بكلّ شيءٍ، عالمٌ بما كانَ وعالمٌ بما هو كائنٌ وما سيكون إلى يوم القيامة، وعلمه هذا على وجه الكشف عمّا هو موجود فهو يعلم السرّ وأخفى ويعلم ما توسوس به أنفسنا، ويعلم مستقبل كلّ واحدٍ منّا وهو يعلم هذا لأنّ صفة العلم في حقّه صفة مطلقة فلو لم يعلم كلّ شيءٍ بشكلٍ مطلقٍ لما استحقّ أن يكون إلهًا.
اقرأ أيضًا: لو شاءَ الله ما أشرَكنا، ولو شاء الله ما عصينا.. مناقشة قرآنيّة
هل يحاسبنا الله على ما كتبه لنا؟
ولأنّ علمه تعالى هو من باب الكشف وليسَ من باب التّأثير التّقييدي أو الإكراهيّ على حرّيتك في الاختيار والقرار والتّنفيذ، فهو يعلم أنّك سترتكب المعصية الفلانيّة، يعلم أنّك ستشرب الخمر مثلًا لكنّ علمه هذا من باب كشف ما سيكون لا من باب التأثير في اختيارك وقرارك فيما سيكون، فلو لم يعلم أنّك سترتكب هذه المعصية لكان علمه ناقصًا ولما استحقّ أن يكون إلهًا.
سأضرب لك مثالًا تقريبيًّا؛ المدرّس الحاذق الذّكيّ يعرفُ طلّابه جيّدًا، فهو من بداية العام الدّراسيّ يستطيع أن يميّز النّاجحين والرّاسبين في نهاية العام، فهو يمكنه تقدير أنّ فلانًا وفلانًا وفلانًا سيكونون من الرّاسبين، وهو يعلم أنّهم سيذهبون بعد انتهاء دوامهم في المدرسة للهو والعبث والتّسكّع أمام مدارس البنات ومعاكستهنّ، ومع ذلك فهو لا يتوقّف عن الطّلب منهم أن يدرسوا ويجتهدوا، ويطلب منهم أن يكفّوا عن ارتكاب الملهيات عن الدّراسة، ويستمرّ في تحذيرهم من ارتكاب الأفعال غير الأخلاقيّة بحق طالبات المدارس المجاورة، وهو يعلم أنّهم لن يستجيبوا، ويعلم أنّهم سيكونون من الرّاسبين في نهاية العام لعدم اجتهادهم، ولكن هل علمه هذا كان مؤثّرًا في اختيارهم الذي اختاروه لأنفسهم؟ وهل ذهبوا لمعاكسة البنات لأنّه كان يعلم أنّهم سيرتكبون هذا الفعل؟ وهل رسبوا تحت تأثير علمه أنّهم سيرسبون في نهاية العام؟
على الإطلاق؛ فعلمُه كان على سبيل الكشف، فهو علم أنّهم سيعبثون لكنّ عبثهم تمّ باختيارهم وقرارهم وحدهم، وعلم أنّهم سيذهبون إلى مدرسة البنات للمعاكسة غير الأخلاقيّة لكن فعلهم تمّ باختيارهم هم وتنفيذهم وحدهم، ورسبوا في نهاية العام وعوقبوا على أفعالهم التي قاموا بها باختيارهم هم ولا يستطيع أحدٌ عاقل أن يقول: إنّ علم المدرّس بهذه الأشياء كان هو السّبب في حدوثها.
وكذلك الأمر يا صديقي فيما يتعلّق بعلم الله تعالى -ولله المثل الأعلى- فعلمه بارتكابك المعصية ليسَ هو السّبب في اختيارك ارتكابها وتنفيذك لها، وعلمُه أنّك ستعاقَب على ارتكاب المعصية التي اخترتَها هو من باب الكشف، فأنت اخترت ونفّذت ونلت جزاء ما اخترت بحريّتك التّامة وقرارك التام.
عندها قال صديقي: ولكن يمكن أن يخطئ الأستاذ في علمه ويحدث ما لم يعلمه ويغيّر فلان سلوكه ويجتهد وينجح، فقلت له: هذا طبيعيّ يا صديقي فهو بشرٌ وعلمه قاصر، ولكنّ هذا لا يمكن أن يحدث في حقّ علم الله تعالى لأنّ علمه مطلق وإلّا لما كان إلهًا.
نظر إليّ صديقي الشّاب اللّطيف ونظرة الرّضى ترتسم في عينيه، شكرني قائلًا: لقد أزلت غشاوة حقيقيّةً كانت عالقةً على بصري، ولكن هل هذا السؤال عن ارتكاب المعصية تحت تأثير القدر والإرادة الإلهيّة جديدٌ معاصر أم قديم ذكره السّابقون؟ وهل ورد في القرآن الكريم؟ وكيف تعامل معه القرآن الكريم إن كان قد ذكره؟
قلت له: سأجيبك تفصيلًا يا صديقي -بإذن الله تعالى- في المقال القادم.
اقرأ أيضًا: أين الله تعالى ممّا يجري للمظلومين والمضطهدين؟ لماذا لا يتدخّل؟