“حق الكدّ والسعاية “… نحو تجديد الفكر العربي

(1)
دعا الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر يوم الثلاثاء الماضي إلى إحياء فتوى “حق الكدّ والسعاية “، جاءت دعوة شيخ الأزهر خلال استقباله الدكتور عبد اللطيف آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودي. رحب المجلس القومي للمرأة في مصر بدعوة شيخ الأزهر لإعادة فتوى “حق الكدّ والسعاية “، وشرحت د. فتحية الحفني أستاذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر، معنى “حق الكدّ والسعاية ” قائلة: إن الكثير من السيدات أصبحن يخرجن للعمل ويساهمن في مصروفات المنزل مع أزواجهن، وحق الكدّ والسعاية يقضي بتحرير عقود يكتب فيها للزوجة ما تنفقه في الحياة الزوجية، حفظًا لحقوقها، ولفتت أستاذة الفقه المقارن، إلى أن حق الكدّ والسعاية لا ينص على كتابة نسبة معينة للزوجة في العقود التي يتم تحريرها، وإنما توضع النسبة التي ساهمت بها مع زوجها، ضمانًا لحقوقها، مشيرة إلى أن الرجل من الممكن أن يتزوج على زوجته التي ساهمت معه في كل شيء، والكد والسعاية يضمن لها كافة حقوقها، حال حدوث ذلك.
وشددت على أنه إذا توفي الزوج، وكانت الزوجة مشاركة معه في كل شيء، وتم تحرير عقود بموجب حق الكدّ والسعاية فإنها تحصل على نصيبها أولا، وبعد ذلك يتم إنفاق مصروفات الجنازة، وسداد الديون، وتوزع التركة.
وهذه الفتوى ليست جديدة فلقد سبقت الإشارة إليها في البيان الختامي لمؤتمر الأزهر لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية الذي أقيم في يناير 2020، ورغم ذلك لم تتم مناقشة الأمر في مجلس النواب المصري، على اعتبار أنه الجهة المنوط بها التشريع وتحويل الفتوى إلى قانون بإجراءات تفصيلية قابلة للتنفيذ.
الجدير بالذكر أن أول بند من بنود البيان الختامي لمؤتمر الأزهر السابق ذكره كان: “التجديد لازمٌ من لوازم الشريعة الإسلاميّة، لا ينفكُّ عنها؛ لمواكبة مستجدات العصور وتحقيق مصالح الناس”، ورغم ذلك ما زال معظمنا يشعر بأن هناك رهبة من رجال الدين وأصحاب العلم في التجديد والاجتهاد وإمعان النظر في مشكلات عصرنا وإيجاد إجابات لها تتماشى مع جوهر الدين الإسلامي وفلسفة شريعته السمحة، فكثير من العادات الاجتماعية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية يجعلنا سجناء في الماضي، عازفين عن التكيف مع الحاضر والمشاركة في صنع المستقبل، وهو ما يتنافى مع تعاليم ديننا الإسلامي الذي أمرنا بالتعلم والتفكر والتأمل والسعي في الأرض.
(2)
الثورات الشعبية على مدار التاريخ، هي إعلان جماعي عن رفض الوضع القائم، سواء من الناحية السياسية ممثلة في أنظمة الحكم أو من الناحية الاجتماعية نتيجة عدم تحقق العدالة والمساواة، وتساعد الحركات الثورية على حدوث تغيرات اجتماعية سريعة. نطاق ومعدل التغييرات الاجتماعية يتجليان من خلال هذه الثورات التي تنطوي على حاجة عدد كبير من الناس إلى التغيير. ولكن يمكن أيضا حدوث تغيرات اجتماعية دون ثورة شعبية، وفي هذه الحالة يحتاج الأمر إلى محركات وحوافز للتغيير من داخل المجتمع، على سبيل المثال: وجود جمعيات نشطة وقوية وذات تأثير تنادي بالتغيير، مفكرون ومصلحون اجتماعيون يساهمون بكتابتهم في ذلك، حكام وساسة أصحاب رؤية يتتبعون مناطق الخلل في سلوك المجتمع وعاداته ويسعون لإصلاحها بحزمة من التشريعات والقوانين التي يتم تنفيذها مهما كانت صارمة وسريعة، رجال دين وفقهاء يجتهدون في إيجاد حلول لمشاكل المجتمع المستجدة بتفسيرات وفتاوى تلتزم بروح الشريعة وفلسفة العبادات وتصحح سلوكيات المجتمع وعاداته.
(3)
رغم فشل ثورات الربيع العربي على المستوى السياسي، فإنها كانت بمثابة الزلزال الذي هز بعنف جمود المجتمعات التي جرت على أرضها، وكذلك دول الجوار؛ فلقد أشاعت إحساسا عميقا بأن هناك خللا منهجيا في أنظمة الحكم العربية وكذلك هيكل المجتمعات، وجعلت من الصعب الاستمرار على نفس النهج السابق، وتنبَّه العديد من الحكام العرب إلى ضرورة إحداث تغييرات في بنية مجتمعاتهم لتصبح أكثر تناغما مع العصر ومفاهيمه، ولأن مجتمعاتنا العربية يمثل الدين فيها ركيزة هامة ومؤثرة، فقد انتشرت عبر وسائل الإعلام الرسمية دعوات حول تجديد الخطاب الديني في محاولة لإحداث تغيرات اجتماعية بديلة عن التغيرات السياسية غير المرحب بها.
(4)
وأعتقد أننا بالفعل نحتاج إلى تجديد حقيقي في طريقة تفكيرنا، وليس فقط تجديد الخطاب الديني الإسلامي، فما زلنا نتخبط في ثنائية تقديس التراث أو شيطنته، وهل هو جزء من هويتنا أم أنه عائق عن اكتشاف حقيقتنا؟ وهنا يحضرني كتاب الدكتور زكي نجيب محمود “تجديد الفكر العربي” الذي صدرت منه 9 طبعات كانت أولاها عام 1971، وهو كتاب صالح للقراءة حتى الآن، ويرد على كثير من المخاوف المتداولة والمتكررة التي ما زالت تعرقل خطواتنا نحو التقدم إلى المستقبل، وهو يجيب في كتابه القيم عن سؤال: ماذا نأخذ من تراثنا وماذا نهمل؟ فيقول: “نأخذ من تراث الأقدمين ما نستطيع تطبيقه عمليا، فيضاف إلى الطرائق الجديدة المستحدثة، فكل طريقة للعمل اصطنعها الأقدمون جاءت طريقة جديدة أنجح منها، كان لا بد من ترك الطريقة القديمة ووضعها على رف الماضي الذي لا يهتم به إلا المؤرخون”، ويضيف في موقع آخر “إن ثقافة الأقدمين أو المعاصرين هي طرائق عيش، فإذا كان عند أسلافنا طريقة تفيد في معاشنا الراهن، أخذناها، وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث، وأما ما لا ينفع نفعا عمليا تطبيقيا فهو الذي نتركه غير آسفين، وكذلك نقف الوقفة نفسها بالنسبة إلى ثقافة معاصرينا من أبناء أوروبا وأمريكا، فإذا كان السؤال المطروح: كيف السبيل إلى دمج التراث العربي القديم في حياتنا المعاصرة، لتكون لنا حياة عربية ومعاصرة في آن واحد؟ كانت طريقة الإجابة السديدة هي أن أبحث عن طرائق السلوك التي يمكن نقلها عن الأسلاف العرب بحيث لا تتعارض مع طرائق السلوك التي استلزمها العلم المعاصر والمشكلات المعاصرة”.
وبالعودة إلى فتوى “حق الكدّ والسعاية” الموجودة في تراثنا الإسلامي نجد أنها تفيدنا في حياتنا المعاصرة، فهي تحفظ حق المرأة وتجعل حياتها أكثر استقرارًا وأمنًا، ولو طبقنا ذلك في أمورنا المعيشية فسنغيّر عاداتنا ومن ثم تفكيرنا.