هل يمكن التقارب بين مكونات المجتمع الواحد؟
ليس صحيحًا أن الفكر الإسلامي المعاصر يرفض الديمقراطية، إذا كان معناها الاحتكام للأغلبية
الواقع العام الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية يتطلب التقارب بين مكونات المجتمعات، وهذه المجتمعات فيها كثير من التنوع والرؤى المختلفة، فهناك الإسلامي، والليبرالي، والقومي، والاشتراكي، واليميني، واليساري، والملحد أيضًا، فهل يمكن التقارب بين هذه المكونات الفكرية على المستوى السياسي مثلًا، بعيدًا عن المعتقدات الدينية؟
أقول من الممكن أن يحدث ذلك إذا خلصت النوايا بين الأطراف المعنية، خصوصًا أن الواقع العربي يعيش في الاستبداد والديكتاتورية في أعنف صورهما، بعد تمكُّن الثورات المضادة، وهيمنتها على المشهد العام في العالم العربي، وانكسار الثورات العربية لعدم تحقيق أهدافها، وعليه فيجب توضيح الأمور التالية:
أولا: هناك مفاهيم مغلوطة يجب أن تصحّح، فليس صحيحًا أن الفكر الإسلامي المعاصر يرفض الديمقراطية، إذا كان معناها الاحتكام للأغلبية، فيما لا نص شرعيا فيه، والدليل على ذلك أن الإسلاميين في أغلب الدول العربية يطالبون بتطبيق الديمقراطية في مواجهة الاستبداد وسيطرة الحزب الواحد.
ثانيًا: ليس صحيحًا أن الإسلام ضد الدستور المدني، فالدولة الإسلامية دولة مدنية وليست دينية بالمفهوم الغربي للدولة الدينية، لأنه لا يحكمها علماء الإسلام، بل من يختاره الشعب، وهي دولة يحدد دستورها الشعب لا الحاكم أو الحكومة، ويمكن عزل الحاكم إذا انحرف عن الدستور.
ثالثًا: الدولة الإسلامية ليست ضد الحريات الدينية للأديان السماوية، وغير السماوية، وليس معنى الحرية الدينية بناء الكنائس، والمعابد بلا حدود، ولا ضوابط وليس معناها السماح بحرية التهجم والسخرية على الأديان والمعتقدات.
الحرية والعدالة
ومن القضايا المشتركة التي يمكن الالتقاء حولها قضيتا: الحرية والعدالة، وهذان المفهومان يمثلان تطلعات الإنسان عبر مراحل التاريخ وفي مختلف الحضارات الإنسانية، لتحرير الإنسان من طواغيت الفساد والاستبداد.
فغياب الحرية يؤدي إلى تقهقر المجتمع وتراكم بوادر تخلفه التي تبدأ قليلة وغير محسوسة، حتى ينتهي الأمر بها إلى إسقاط المجتمع في براثن التخلف الحضاري العام، ذلك أن درجة الغياب في الحرية تقابلها درجة في وجود نقيضها وهو الاستبداد، وهذا هو الحادث في عالمنا العربي فمع غياب الحريات العامة وتقهقرها تزداد أنياب الاستبداد وتعلو.
والحرية ليست هدفًا فحسب، وإنما هي إحدى آليات الفعل الحضاري، فالإنسان غير الحر، أي العبد، أو المستعبد بفعل الطغيان والاستبداد، لا يستطيع أن يبدع، وأن يدخل المعادلة الحضارية بصورة إيجابية.
وإقامة العدل بين الناس لا يمكن الاختلاف حولها، وتحقيق العدالة الاجتماعية هي مطلب أساس في الإسلام ويجب أن تكون في الممارسة الليبرالية، من حيث المساواة وعدم التمييز، والتوزيع العادل للموارد والأعباء، وتوفير الضمان الاجتماعي، إلى غير ذلك من الحقوق التي يجب أن تتوفر للإنسان الطبيعي الذي يريد أن يحيا حياة كريمة إنسانية.
ومن ثمّ يكون هناك تعايش سلمي بين المكونات السياسية والفكرية المختلفة، ويُحترم الرأي والرأي الآخر، مع حق الجميع في التعبير عن نفسه، وصيانة حق المعارضة ومشروعيتها.
الحوار
ولتحقيق هذا التقارب لابد من إجراء حوار بين الطرفين الأساسين في كل المجتمعات الآن، أعني: بين الفكر الليبرالي والفكر الإسلامي، هذا الحوار يجب أن يقوم على أسس وشروط تحقق نجاحه، منها:
أولًا: أن يدار الحوار من جهة محايدة من ذوي العدل والموضوعية والثقافة والخبرة ممن لا ينتمون إلى تنظيم إسلامي أو ليبرالي، ومن الضروري أن يتم تخطيط وإدارة وتنظيم الحوار بصورة صحيحة، وهذا للأسف ما يفتقده كثير من السياسيين لأنهم يتعاملون مع الواقع السياسي دون قدرة على فهم صحيح للحدود الفكرية للإسلام والليبرالية.
ثانيًا: إبعاد المتطرفين من الإسلاميين والليبراليين، لصعوبة الحوار معهم، وبعدهم عن العقل والواقعية والإنصاف، والأهم من ذلك أن المتطرفين من الجانبين ليسوا أغلبية، وهم سبب الفتن والاختلاف والتنافر والصراع الحادث الآن.
ثالثًا: يتطلب الحوار الإسلامي الليبرالي تحديدًا صحيحًا وشاملا وعميقًا ودقيقًا للمصطلحات والمبادئ الفكرية، فضبط المصطلحات والمعاني بديهة علمية إذا تحققت أدى ذلك إلى تقليل حدة الخلاف، والتقارب في حل القضايا السياسية الآنية.
رابعًا: تحديد المشتركات والعمل عليها وهي كثيرة، مثل قضايا محاربة الفساد والاستبداد، ومعالجة مشكلات الفقر والبطالة، وإطلاق الحريات العامة، والمساواة في الحقوق وعدم التمييز، والسعي إلى تمكين الشباب والمرأة في المواقع القيادية المختلفة.
خامسًا: لابد أن يعي جميع الأطراف أن المجتمعات العربية والإسلامية لها خصوصيتها، التي ميزتها عن غيرها، من حيث الهوية والثقافة واللغة والحضارة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، استنساخ التجارب الأخرى كما هي دون اعتبار لخصوصيتها.
سادسًا: الوعي بأن التقارب والائتلاف في هذه المرحلة من أوجب الواجبات، ويجب على كل العاملين في العمل العام أو أي عمل بشري يُراد منه نفع الناس، مراعاة ذلك، دون الإخلال بالثوابت المتعارف عليها، وأن من حق الجميع أن يطرح وجهة نظره، وأن نختلف معها جملة وتفصيلا، ما دامت هناك أسباب مُقنعة وأدلة دامغة، دون سِباب أو تخوين.
والخلاصة:
أننا نعيش في مرحلة شديدة التعقيد، يجب فيها أن تتكاتف الجهود وتتقارب الأفكار لإزاحة الاستبداد والفساد الذي جثم على بلادنا فترات طويلة ولا يزال، وكمّم الأفواه، وضيّق على الحريات العامة، وكلّس الحياة برمتها، وسرق مقدراتنا.
والبداية أن يستمع بعضنا إلى بعض، مع الابتعاد عن التشنّج الفكري، والتعصب للجماعة أو الحزب، أو القبيلة، وليكن الحوار هو المدخل الطبيعي لتقريب المفاهيم، وأن يعي كل منّا أنه لا يحتكر الحقيقة، فرأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، كما قال الشافعي، ولتكن حقوق المواطنة، ودولة العدالة الحاكمة، والدولة الوطنية التي تحافظ على الحريات العامة، وتضمن تداول السلطة، هي الأساس في بناء جسور التواصل والتفاهم بين أفراد المجتمع الواحد.