“عصفور” أسامة أنور عكاشة.. الرصاص في مواجهة الحقيقة

أسامة أنور عكاشة

بعد أن أتم صادق الحلواني (عمدة الحلوانية) بناء عقله وقلبه، وأكمل رسالته برفاق طريق، قرر أن يعيد حق أبناء القرية في الرأي والمشورة والبيع والشراء إليهم، مخالفا مبدأ قديما سارت عليه الحلوانية بتوريث العمودية لآل عوف الحلواني، ويقرر أن يترك لأهلها هذا الحق، ويدور الحوار بينه وبين شقيقه الأصغر صقر الحلواني:

ـ تسيبها لمين يا صادق؟

– لأهلها يا صقر.

– إحنا أهلها.

– لا إحنا جزء من أهلها.

– من عمر عمر الزمن.. من قبل عمري وعمرك.. من عمر جدودنا وأبائنا وإحنا اللي شايلين مسؤوليتها ومسؤولية اللي عايشين عليها.

– آن الأوان، وكل وقت وله أدان، واللي كان واجبنا زمان، بقي حقهم دلوقتي.

كان نصيب العمدة صادق الحلواني ـالمحبوب من أهل الحلوانية- جراء هذا التفكير رصاصة طائشة في ليلة ظلماء، بتدبير محكم، وليصمت أهل الحلوانية عشرين عاما تحت ضغط الحاجة والخوف الذي ملأ قلوبهم، حتى أقرب أصدقاء العمدة صمتوا تحت دعاوى الحاجة وتربية أولادهم الذين أصبحوا الآن في عمر الشباب.

هكذا يبدأ أديب الدراما المصرية أسامة أنور عكاشة مسلسله المبدع (عصفور النار) الذي أنتجته الشركة العالمية للإنتاج والتوزيع عام 1987، وأخرجه محمد فاضل، وبطولة المتألق دائما محمود مرسي. التوقف أمام الأسماء المشاركة في العمل يحتاج كثيرا من الكتابة، ولكن دعني أذهب إلى الحكاية في (عصفور النار) المسلسل الذي يثير الألم والحزن على حال الدراما المصرية الآن، وغياب كل هؤلاء الكبار عنا بما قدموه خلال فترة بدأت من بداية الستينيات، وشهدنا نهاياتها من بداية الألفية الثالثة، لنذهب إلى إنتاج الدراما في وضعها الحالي.

صقر الحلواني (عمدة الحلوانية الجديد القديم) يعيش على كابوس دم أخيه المراق على يديه، ويحكم البلد بقبضة من حديد عن طريق حمزة السنباطي شيخ الغفر (الخفراء) ورجاله الذين يراقبون الجميع، لكنه يدّعي لنفسه حرصه على الحلوانية التي يمتلك كل أرضها، ويكتفي بأن يعطي كل واحد من أهل البلد ما يكفيه حسب رؤيته الخاصة.

تبدأ الأحداث هادئة رقيقة حيث حورية (ابنة أخيه صادق) تعيش في كنفه وفي علاقة عاطفية مع ابنه مروان، وتستعد للزواج، وفي ليلة زفافها يظهر لها شقيق (الحسيني صادق الحلواني) لتنقلب الحياة في الحلوانية بما يحمله الحسيني من مفاجآت تكشف الماضي، حيث مقتل صادق، وأسرار العمدة صقر الذي يمارس كل أنواع القهر مع أهل القرية، ويحكم بتوكيلات تمت تحت الخوف والقهر.

يبدو في دلالة الاسم (عصفور النار) أن الحسيني هو العصفور حامل الرسالة ليكشف خبايا الحكم بالقهر، فهو يحمل رسائل لصادق الحلواني، كشف فيها مؤامرة صقر للخلاص منه بعد أن حبسه في منزله، ويقول “أشعر مع أول خروج لي من المنزل أن رصاصة أحد الخفراء الذين يحيطون به ستقتلني” وبالفعل يحدث. وفي رسالة ثانية يتحدث عن أصدقائه الذين يتصور أنهم سيحمونه ويحمون ما ينوي فعله، لكنهم يخذلونه بعد مقتله، فيذهب كل واحد إلى طريق بمبرراته، أما شقيقته التي تعرف الحقيقة (ساسابان) فقد انحازت إلى العائلة والحفاظ عليها والتزمت الصمت. يأتي الحسيني (العصفور) برسائله فيقلب الحلوانية رأسا على عقب ويكشف الجميع، ويساعده جيل جديد من الحلوانية تعلّم وأصبح له طموحاته وأحلامه، جيل لا يعترف بعمودية صقر الحلواني، ويراه يحكم بالحديد والنار.

التوكيل بالعمودية والحق في البيع

نحن أمام مبدأين يقرهم أسامة أنور عكاشة، أحدهما للحكم (العمدة) هو التوكيل من أهل القرية وكبارها، إذ يعطي كل شخص للقائم بأعمال العمودية موافقته على العمودية، وقد حصل صقر الحلواني تحت القهر من أهل القرية جميعهم على التوكيل، ما عدا ثلاثة من الكبار هم أصدقاء شقيقه (صادق المقتول) الذين احتفظوا بتوكيلاتهم حتى يظهر الأحق بها (الحسيني) حسب رؤيتهم، لكن الحسيني رسالة -ليس أكثر- للجميع.

أما المبدأ الثاني، فهو أن صقر الحاكم يحرم الجميع من بيع أي قطعة أرض في الحلوانية، ويكشف الحسيني أن صقر هو أول من باع أرضه، وأن العقد لديه، فهو يحرم الجميع، لكنه هو من فرّط في أرضه. تضيق الأمور على صقر ورجاله، ولا يجد طريقا سوى إشعال النار في الحلوانية كلها، ليتخلص من الحسيني المريض بالقلب، بينما يرى الفريق الآخر -الحسيني وحورية ومروان والشباب- أن النار..

أطهر قلوب الدنيا قلب اللهيب

أصدق لسان كان لسان اللهب

جنون غضب بعده السكون الرهيب

تصفى النيران وتبان حقيقة الدهب

كتب الشاعر سيد حجاب كلمات الأغاني لمقدمة المسلسل وختامه، وداخل العمل الذي يتضمن في كل حلقه أغنية أو أكثر تستكمل الحالة الدرامية، وقدّم ألحانها الموسيقار عمار الشريعي، الذي قام بأداء بعض المقاطع الغنائية.

تتواصل حلقات الخناق وتضيق حول صقر مغتصب العمودية، ليفيق أهل القرية مع تراكم الوعي واكتشاف الحقائق، ويطالب الجميع صقر الحلواني بالرحيل (ارحل.. حسب نص عكاشة). ومع أنهم سيتركون له ما يحتاجه للرحيل، فإن صقر -الذي يرى أنه الوحيد الذي يستطيع حماية القرية- يتشبث بالكرسي ولا يتركه، ومع توالي الأحداث تصيبه رصاصة طائشة من أحد رجاله الذين انفضوا من حوله بعد انكشاف أمره، بينما يرحل الحسيني -عصفور النار- حامل الرسالة لأهل الحلوانية (اطلب الحق تظهر الحقيقة).

المسلسل تأليف أسامة أنور عكاشة، صاحب أهم الأعمال في تاريخ الدراما المصرية، حيث التاريخ محور مهم في كتاباته، خاصة التاريخ الاجتماعي والسياسي، ولا ننسى له (الشهد والدموع) جزآن، و(ليالي الحلمية) ستة أجزاء، و(زيزينيا) و(المصراوية) جزآن، و(على أبواب المدينة) جزآن. كما كان التراث والحفاظ عليه والهوية أبرز رسائله في (المشربية) ثاني أعماله، و(الراية البيضاء) و(أرابيسك). وللسينما قدّم (كتيبة الإعدام) و(الهجامة) و(دماء على الأسفلت). وللمسرح قدّم عكاشة ثلاثة أعمال (القانون سيادته) و(البحر بيضحك ليه) و(الناس اللي في التالت). كما قدّم عكاشة أعمالا روائية منها (منخفض الهند الموسمي) و(وهج الصيف) و(سوناتا لتشرين) آخر رواياته. وأُطلِق على أسامة أنور عكاشة لقب “نجيب محفوظ الدراما المصرية”.

المخرج محمد فاضل أحد الكبار في الدراما التلفزيونية، وقدّم مع عكاشة أعمالا مهمة في تاريخ الدراما، ويتميز فاضل بالحساسية وقدرته على رسم المَشاهد برقي وبلقطات ناعمة تنساب إلى وجدان المُشاهد، ومع عكاشة قدّم (عصفور النار) و(الراية البيضاء) و(ما زال النيل يجري) و(رحلة أبو العلا البشري) و(قال البحر).

قدّم هذا المسلسل قامات تمثيلية على رأسها (محمود مرسي) الذي أدى في هذا المسلسل شخصيتين متناقضتين، هما صقر وصادق الحلواني، ذكّرنا في الأول بشخصية (عتريس) التي لا تُنسى في فيلم (شيء من الخوف). ومحمود مرسي هو بطل أسامة أنور عكاشة المفضل، ولا ننسى دورَيْه في (رحلة أبو العلا البشري) و(لما التعلب فات).

وفي التمثيل لا ننسى فردوس عبد الحميد ومحمود الجندي وعبد الله محمود في إحدى محطاتهم المهمة، والكبيرة أمينة رزق في دور العمّة (ساسابان)، ونبيل الدسوقي ومحمد متولي وكثيرين، فالمسلسل شارك فيه نخبة من نجوم التمثيل في مصر.

أما الأشعار والألحان، لسيد حجاب وعمار الشريعي، فقد قدّما خطا غنائيا موازيا للأحداث الدرامية في المسلسل، واستطاع الشريعي -بأدائه بعض أغاني المسلسل بصوته- إحداث حالة موسيقية خاصة، وهما الثنائي اللذين قدّما مع عكاشة أحد أهم مسلسلاته، هو (قال البحر) من إخراج محمد فاضل أيضا.

جاي من ورا الليل والجراح

وسط الرياح فارد جناح

يا ساحة الحلم القديم المستباح

يا واحة العيد البعيد.. الفل فاح

وانزاح يا ليل.. ده الفجر لاح

ولا كل مين طال.. نال وطاح

ولا كل مين باح استراح

ولا كل شيء راح من إيدينا يبقى راح

ورا كل خنقة جاي صباح رباح براح

وانزاح يا ليل.. ده الفجر لاح

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان