هل كانت ثورة يناير ضد الشرطة؟!

وجود الدولة قديم، قِدم وجود البشر على الأرض، الدولة أخذت أشكالًا وأنماطًا مختلفة من عصر إلى آخر وفقًا لطبيعة الحياة ونمط السلطة في كل مرحلة تاريخية حتى وصلنا اليوم إلى الشكل الحالي للدولة الوطنية الحديثة.
ومنذ الشكل البدائي الأول للدولة -حتى لو كانت مجرد قبيلة تسكن الصحراء- فإن هناك مؤسسات رئيسية تشكلت للحفاظ على قوام الدولة، وضبط حركة الناس، وهي مؤسسة الدفاع (الجيش) لصد أي عدوان خارجي عن إقليم الدولة وسكانها، ومؤسسة الأمن (الشرطة) لحفظ الأمن الداخلي وإنفاذ القانون، ومؤسسة العدالة (القضاء) ووظيفتها إقامة العدل وضمان الحقوق بين الناس.
هذه المؤسسات الثلاث، بجانب مركز السلطة، سواء كان رمزها شيخ القبيلة أو الأمير أو الملك أو الرئيس أو رئيس الحكومة وفق المسميات الحديثة، يمثلون النظام الحاكم في الدولة، سواء أخذت الدولة شكل القبيلة أو الإمارة الصغيرة أو الإمبراطورية الكبيرة.
وهي تركيبة النظم الحاكمة نفسها اليوم في الدولة الوطنية مضافًا إليها مسار طويل من التطور والتنظيم ووضع القواعد والقوانين والدساتير التي تحدد وظائف وهيكلية المؤسسات، وتقرر ما لها من حقوق وما عليها من واجبات، كما تحدد علاقتها مع السكان، وهم الشعب، وتضبط هذه العلاقة ليكون فيها تفاعل وتفاهم وانسجام، فهى مؤسسات الشعب، وهو من يمنحها مشروعية العمل، ويوفر لها متطلباتها، نظير قيامها بمهامها في خدمته والحفاظ على كيان الدولة.
الدعوة للإصلاح
هذه مقدمة ضرورية لكي ندرك مغزى وقيمة المؤسسات التي هي صلب الدولة وعمادها وحجر الزاوية الرئيسي فيها، وأن وجودها ضرورة حتمية، وغيابها يعني زوال الدولة، وغياب واحدة منها يعني إسقاط أحد أركان الدولة، فلا تبقى مستقرة في مكانها.
وهناك فارق شاسع بين الدعوة لإصلاح المؤسسات إذا اعتراها خلل، ورفض المؤسسات، الحالة الأولى لها وجاهة، والثانية وصفة للفوضى وإنهاء للدولة، وفارق كبير بين وجود عناصر تنتمي لمؤسسة في الدولة، وتسيء استخدام وظيفتها، وتشوه صورة مؤسستها، وبين هدم المؤسسة، ففي الأولى هناك المحاسبة والجزاء واستئصال العنصر الفاسد، وفي الثانية تدمير للمؤسسة والدولة، وهو أمر خطير ومرفوض.
هذا حديث بديهي، لكن مع تراجع مستوى الوعي، وقصور الفهم السياسي، وتآكل استقلالية المؤسسات، وظهور المشكلات في قيامها بواجباتها تجاه المواطنين، والإمعان في الخصومة بين أنظمة حكم وبعض معارضيها، فإن أطرافًا قد تنتهز الفرصة للتشكيك في مدى جدارة قيام المؤسسات بدورها الوطني وإخلاصها في خدمة شعبها.
صحيح أن انتشار الفساد بداخلها، وتحوّلها إلى ما يشبه كيانات خاصة داخل الدولة يدعم توجهات المشككين في جدواها، والتفكير الجامح الذي يدعو للهدم الشامل، وإعادة البناء الكامل، بزعم إقامة مؤسسات يكون ولاؤها للشعب، لكن مثل هذا التفكير لا يدرك أنه لا دولة في العالم تطورت ونهضت وانتهجت الحكم الرشيد تخلصت من أي مؤسسة مهما كانت درجة انحرافها عن الأهداف التي وُجدت لأجلها، كل تجارب التحول اعتمدت على إصلاح المؤسسات والمرافق الرسمية وإعادة تأهيلها ليكون انتماؤها للشعب وليس للحاكم وزمرته.
ذكرى على الهامش
كلامي هذا تأكيد لما هو معروف في فلسفة فكرة الدولة وتدرّجها تاريخيًّا لتكون لكل مواطنيها، وفي تطور السياسة ليمارسها الجميع دون إقصاء أو تهميش، ويأتي هذا التذكير في مناسبة الاحتفال بعيد مؤسسة الشرطة المصرية ذات التاريخ الطويل.
والعيد السنوي الذي جرى الاحتفال به للعام السبعين، تزامن مع الاحتفال بالذكرى الـ11 لثورة 25 يناير المجيدة، ومن داخل تيار يناير كانت هناك شريحة غاضبة من المؤسسات، وخاصة الشرطة، وتستهدف التفكيك ثم إعادة البناء، وهي دعوات افتقدت المنطق والعقل والبعد العملي. ومهما كانت أزمة المؤسسات وشيوع الخلل داخلها، فإن الحل ليس إزالتها، إنما إصلاحها بشكل تدريجي هادئ، إذ من يتحمل غياب الأمن لساعات، في بلد كبير وكثافته السكانية تجاوزت 100 مليون نسمة؟
لا أحد يتحمل ليس غياب الأمن فقط، إنما مجرد التفكير في حدوث هذا الغياب، حيث لا يعلم إلا الله وحده ماذا يمكن أن يحصل في البلاد والعباد من فوضى عارمة، حتى في أكثر الدول تقدمًا ورُقيًّا.
ومجرد ساعات أو أيام خلال ثورة يناير أُشيع فيها أن الأمن غائب حتى فزع الناس، وسكن الخوف قلوبهم على أنفسهم وأهاليهم ومصالحهم وبلدهم، وهم محقون في ذلك، وعندما برز بعض الخارجين عن القانون، فإن ذلك كان كفيلًا بإثارة الفزع، رغم أنهم لم يرتكبوا جرائم خطيرة سوى بعض السرقات.
لهذا، فإن وجود كيانات الشرطة والجيش والعدالة، والأجهزة الخدمية الأخرى، أمر حاسم لا يقبل النقاش، وعلاج أي خلل بداخلها، أو أخطاء تصدر من أفرادها، أو تجاوزات منهم في حق القانون والناس، ضروري وحتمي، والأخطاء تحدث بالمؤسسات في كل دول العالم، والفيصل هو المحاسبة الفورية لتقويم أي اعوجاج.
ماذا يجعلنا نجلس في بيوتنا وننام ونترك مصالحنا ونحن مطمئنون؟ هو الوجود المادي الملموس للأمن، والوجود المعنوي المحسوس له، أي الشعور بالأمن والثقة فيه، ومهما كانت الملاحظات على الأداء أو المرارات من بعض الممارسات، فالشعور بالأمان أحد أهم احتياجات الإنسان وفق هرم ماسلو (أبراهام ماسلو عالم نفس أمريكي كبير).
ثورة يناير لم تكن ضد الشرطة، ولم تستهدف دور هذه المؤسسة، فالمظاهرة الافتتاحية يوم 25 يناير 2011 كانت أهدافها أكبر وأسمى، وفي جانب منها احتجاج على بعض ممارسات تقع في مرفق أمني كبير دوره صيانة البلد والشعب.
ضد الاستبداد
من يقول إن يناير كانت ضد الشرطة، يظلم الثورة ويسهم في تقزيمها وبخس حقها والحط من شأن أهدافها النبيلة التي تجسدت في شعاراتها بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهذه مطالب عادلة وسامية، يستحقها المصريون، ولم يحصدوا ثمرتها حتى الآن.
يناير كانت ثورة صريحة ضد الاستبداد، وهو آفة الآفات، ومواجهة الاستبداد الفردي هدف كبير وجليل يستحق التضحيات.
الشرطة مؤسسة مفصلية كما سبق وقلنا، ويستحيل الاستغناء عنها أو التقليل من دورها أو شأنها، وأي تأثير فيها سيكون الشعب هو المتضرر الأول والأكبر، وبالتالي لا يمكن لشعب أو طليعة نخبوية فيه أن تفكر في إقصاء هذا المرفق أو شل حركته وقدرته أو ضربه، هذا عبث وجنون.
ومن أسف أن يناير لم تفلح في إصلاح أي مؤسسة، بقيت الأوضاع على حالها، والعذر أنها لم تحكم، وعندما خرج من يحكم من صفوفها انقسمت قوى الثورة عليه، وانتهت صراعات الإخوة الأعداء بضربة قاتلة في قلب الثورة، وفي النهاية خرج الجميع خاسرين، واليوم فإن الشارة على الشاشات هي لعيد الشرطة فقط، ولا أثر لـ”يناير” سوى كلمتين عابرتين، بينما “يونيو” تفرض نفسها على الشاشات، وكأنها قامت لتزيل يناير، وليس لتصحيح مسارها كما كانوا يقولون.
ومن جانبي، لا أجد تناقضًا بين الثورة والشرطة، ولا بين الثورة وكل مؤسسات الدولة ومرافقها، فالأسباب الكامنة التي تفجّر الثورة ليست نابعة من المؤسسات، إنما مصدرها من يضع السياسات العامة، ومن يدير المؤسسات ومن يحركها ويوجهها، ومن يتستر وراءها وهو ينتهك القانون وحقوق الإنسان.
وباستثناء عناصر غير منضبطة، فإن الأفراد داخل المؤسسات ينفّذون سياسات وقرارات، ولا طاقة لهم برفض التنفيذ، أو الاحتجاج على خطط العمل، فهذا فوق قدراتهم وخارج مسؤولياتهم، وهم أدوات تنفيذ وليسوا جهات إقرار تشريعات وصياغة قرارات.
وأهمية الديمقراطية أنها تزيل بشكل متواصل كل أسباب تفجّر الغضب الشعبي دون ترتيب مسؤوليات على العاملين بالمؤسسات أو محاسبتهم ومعاقبتهم، فالديمقراطية تغيير سياسي سلمي آمن عبر صندوق الانتخابات، وإذا كانت سياسة الحكومة غير موفقة، ففي أقرب انتخابات يتم سحب الثقة منها واستبدال حكومة جديدة بها.
بالتالي، لا مجال لتغيير ثوري، أبيض أو أحمر، سلمي أو عنيف، مرغوب أو مرفوض، ولهذا لا تتفجر ثورات واحتجاجات شعبية على النظم الديمقراطية القائمة لتغييرها، الثورة تحصل هناك عبر إرادة الناخب، وآليتها الصندوق وورقة التصويت.
والناس هناك مطمئنون لعدم حدوث انقلابات دراماتيكية في شؤونهم المستقرة أو تضرر أعمالهم وأنشطتهم ومصالحهم أو وقوع ما لا يريدون أو يزعجهم ويخلط أوراق حياتهم. أما الاستبداد وحكم الفرد فهو مصدر كل الأزمات والمآسي.
وظيفة الشرطة
الشرطة مؤسسة في صلب بناء الدولة وبقائها، ووظيفة رجالها السهر على حماية المواطنين وراحتهم وحسن تطبيق وإنفاذ القانون، وهم مطالبون دومًا بحسن هذه المعاملة، والتطبيق الأمين والنزيه للقانون، والعدالة مع كل المواطنين دون استثناء. وهذا الجهاز الخدمي يستمد وجوده وقوته ومواصلة دوره من رضا الشعب عنه، وإشادته به، واطمئنانه إليه، وثقته فيه، وعدم خوفه منه، والعكس من كل هذا يضع الشرطة في موقف مناقض للمواطنين، وهذا مقلق ومزعج.
وحتى اليوم، قطار الإصلاح بطيء أكثر من اللازم، بل لا يكاد يتحرك على قضبانه، وتفادي الغضب والاحتقان والاحتجاجات طريقه الوحيد هو الإصلاح الجذري المنهجي لكل المؤسسات والأجهزة والمرافق، وبقاء الأوضاع على ما كانت عليه قبل يناير، لا يخدم بنيان الدولة القوية المتماسكة، ولا يستوعب درس الثورات، ولا يفكر في التقدم إلى الأمام على المسارات الصحيحة.