25 يناير.. الثورة المغدورة من أبنائها

لم تشهد مصر في تاريخها المعاصر سوى ثورتين شعبيتين، كانت أولاهما في العام 1919، وكانت الثانية هي 25 يناير 2011، أي إن المدة الفاصلة بينهما 92 عاما، وهي مدة منطقية، فالثورات لا تقوم كل عام أو حتى كل عقد بل تحتاج إلى عقود وأحيانا إلى قرون لتتجمع كل عناصرها، لكن الثورات لا تنتصر من أول جولة بل تحتاج إلى جولات بين مد وجذر، انتصار وانكسار حتى تستقر لها الأوضاع وتُحكم سيطرتها على مفاصل الحكم وشؤون المجتمع، وخلال تلك الجولات تتعرض الثورات للغدر من بعض أبنائها أو أدعيائها، ولمقاومة عنيفة من الثورات المضادة التي تمثل مصالح الفئات المتضررة منها في الداخل أو الخارج، وهو ما تعرضت له ثورة 25 يناير.
لقد حققت الثورة انتصارات سريعة في أيامها الأولى بدءا من 25 يناير بتحطيم حواجز الخوف لدى المصريين، ثم بكسر غرور الشرطة في 28 يناير، مرورا بتنازلات مبارك المتتالية التي انتهت بخلعه، ومحاكمته مع أولاده ورموز حكمه، وحل حزبه وبرلمانه ودستوره، ومن ثم انتخاب برلمان ورئيس مدني ودستور جديد، لكن الثورة تعرضت لمقاومة عنيفة أيضا منذ أيامها الأولى، فمن الطبيعي أن يواجه نظام مبارك والفئات المرتبطة به من رجال أعمال وتنظيمات سياسية هذه الثورة عليهم، وكانت هناك لجنة لإدارة الأزمة في القصر الرئاسي يديرها جمال مبارك وصفوت الشريف وآخرون، هي التي ساندت مبارك في عناده، لكنها هي أيضا التي نصحته بتقديم تلك التنازلات مع تصاعد ضغوط الثوار وصمودهم، وهي ذاتها اللجنة التي دبرت محاولة قتل الثورة، ودفنها في مهدها ميدان التحرير في ما عُرف لاحقا باسم موقعة الجمل التي نعيش حاليا ذكراها الحادية عشرة، لقد رتبوا جيدا لتلك المعركة لتكون نتيجتها القضاء على الثورة، اختاروا موعدا كان الميدان فيه أقلّ اكتظاظا بالمعتصمين، وحشدوا متضررين فعلا من تعطل النشاط السياحي ليبدو الأمر حراكا شعبيا، ولكن من الخلف كانت تقف قوة دولة مبارك، وجهازها البيروقراطي وتنظيماتها النقابية “المنتقاة بعناية” مثل اتحاد العمال، وبعض الشخصيات التي تبدو مستقلة عن النظام لكنها في حقيقة الأمر كانت تسعى لتقديم نفسها له ظنا منها أن النصر سيكون حليفه مثل مرتضى منصور، كما أن الجيش كان يقدم دعما غير معلن للمهاجمين، ومع ذلك انتصرت الثورة في تلك الغزوة الهمجية، وكان هذا الانتصار هو الإشارة الفعلية لانتهاء نظام مبارك قبل سقوطه الفعلي بأكثر من أسبوع.
الغدر الأكبر
مواجهة نظام مبارك قبل سقوطه للثورة كانت أمرا طبيعيا، لكن غير الطبيعي أن يغدر بالثورة بعض أبنائها، أو الجيش الذي ادعى حمايتها، فالجيش بنى رواية ونجح في تسويقها أنه كان داعما للثورة، ودلل على ذلك بعدم تصديه للمظاهرات أو الاعتصامات، رغم نزوله إلى الشارع مساء يوم 28 يناير، ورغم أننا كنا في الميدان نلاحظ تضييق مدرعات الجيش علينا، ومحاولة حصرنا في مساحة ضيقة داخل الميدان ليسهل تفريقنا، ومساعدتها للمهاجمين يوم معركة الجمل، فقد مرّرنا تلك الرواية، وتجاوبنا بوعي أو بدون وعي مع هتاف “الجيش والشعب إيد واحدة”، ورحّبنا بتحية المجلس العسكري عبر ممثله اللواء محسن الفنجري لشهداء الثورة، وقبلنا إدارته للمرحلة الانتقالية، لكن قائد الجيش بنفسه تاليا هو الذي قاد الانقلاب على الثورة، وهو الذي لا يكل ولا يمل بعد أن أصبح على رأس الدولة من الإساءة إليها، وتحذير الشعب من مغبة تكرارها، رغم أن الدستور المعمول به حاليا لا يزال يتضمن نصوصا تحترمها، لكنها كغيرها من النصوص المهدرة، وأطلق النظام أبواقه الإعلامية والسياسية لنهش الثورة ورموزها، وتعلية الثورة المضادة (30 يونيو) عليها، والعودة للاحتفال بيوم 25 يناير عيدا للشرطة، وهو اليوم ذاته الذي انطلقت فيه الثورة ضد انتهاكات الشرطة، وأخير طمس ميدانها الأهم “التحرير” بذريعة التطوير والتحديث، وهو الميدان الذي هوت إليه أفئدة المصريين، بل وقادة العالم الذين حرصوا على زيارته والتعبير من أرضه عن تحيتهم وتقديرهم للشعب المصري وثورته العظيمة.
أما الغدر الأكبر فقد كان من بعض أبناء الثورة الذين باعوا أنفسهم بثمن بخس للثورة المضادة، فانقلبوا مع المنقلبين على ثورتهم، ولا يزال بعضهم يكابر حتى الآن، ويقرن بين الثورة (25 يناير) والثورة المضادة (30 يونيو) في جملة واحدة، لقد شاركوا بكثافة في الحشد والتعبئة لمظاهرات الانقلاب على الثورة، ظنا منهم أنهم يسعون فقط للخلاص من حكم الإخوان، وأن الجيش سوف يسلمهم السلطة بعد إزاحة الإخوان، وراح كل منهم يحلم بالمنصب الكبير الذي ينتظره، وعرفت القيادة الحقيقية للثورة المضادة ثمنهم الفعلي، فمنحتهم مناصب منزوعة الدسم، سواء في تشكيل أول حكومة بعد الانقلاب برئاسة حازم الببلاوي ومعه عدد من وزراء جبهة الإنقاذ، أو بتعيين البرادعي نائبا للرئيس المؤقت، أو بتعيينهم في المجالس المستقلة مثل المجلس الأعلى للصحافة، أو المجلس القومي لحقوق الإنسان، أو المجلس الأعلى للثقافة، ولأن قيمتهم كانت رخيصة لدى قيادة الانقلاب، فقد تم إطاحتهم جميعا من تلك المواقع بعد شهور قليلة، لإخلاء تلك الأماكن لرجال العهد الجديد، الذين لا يربطهم بيناير إلا العداء الكامل.
مات كمدًا
كان المأمول أن يفيق هؤلاء من أحلامهم التي استحالت كوابيس، بعد أن بدأت الدائرة تدور عليهم، وبعد اعتقال عدد من رموزهم وشبابهم، والإصرار على إذلالهم في التحقيقات وفي المعتقلات، لكن حالة الكبر والإنكار تظل هي المسيطرة عليهم حتى الآن، والأكثر مدعاة للسخرية أنهم لا يزالون يتسولون رضا النظام، وقد رأينا مظاهر ذلك بعد وفاة الصحفي ياسر رزق رئيس تحرير جريدة الأخبار السابق ذي الجذور الناصرية، حيث كتب بعض رموز ذلك التيار يستغربون ما يحدث من تضييق مع معسكر 30 يونيو الذي واجه الإخوان، ويلمحون أن ياسر نفسه ربما مات كمدا بسبب ما تعرض له رغم كل خدماته، وهو ما أشرت إليه شخصيا في تعليق على صفحتي في فيسبوك يوم وفاته، هؤلاء الذين لا يزالون يستجدون الرضا السامي ثمنا لما قدموه هم أكبر خنجر أصاب الثورة في خصرها، هؤلاء لم يكونوا ديمقراطيين ولا ثوريين، بل كانوا باحثين عن مكانة افتقدوها في ظل نظام مبارك فجددوا البحث عنها مع المجلس العسكري الانتقالي، وأحيانا مع الإخوان المسلمين، ومع العهد الحالي.
ورغم أن النظام لا يزال يعتقل المئات من شباب الثورة، ومن رموز التيارات المدنية المختلفة فإنهم لا يزالون يقفون على بابه طالبين عطفه، إلا أنه لا يلقي لهم بالا، ومع ذلك يرفضون كل الدعوات للحوار بين شركاء الثورة لاستعادة المسار الديمقراطي، وحين سعوا لتأسيس مظلة جامعة “الحركة المدنية الديمقراطية” فإنهم استبعدوا منها القوى الثورية الحقيقية مثل 6 أبريل والاشتراكيين الثوريين بخلاف باقي القوى الإسلامية الموجودة داخل مصر مثل حزب مصر القوية والوسط وغيرهما، كما استبعدوا شخصيات معروفة مثل ممدوح حمزة ويحيي القزاز وحازم عبد العظيم، وحين كوّنوا مجموعة برلمانية، فإنهم جمعوا بين الثورة والثورة المضادة في تحالف (25-30) لكن النظام لم يقبل منهم ذلك، وظل يضيّق عليهم، وأسقط مرشحيهم في الانتخابات الماضية، هذا الحديث يقتصر بطبيعة الحال على الذين غدروا بالثورة ولا يزالون ماضين في غيهم، لكنه لا ينطبق على من أخلصوا للثورة، ورفضوا الانقلاب عليها، أو حتى الذين انخدعوا بعض الوقت لكنهم أفاقوا سريعا، وعادوا إلى مبادئ ثورتهم، حتى وإن كانوا لا يزالون يحملون غصة لشركائهم في الثورة من الإسلاميين، الذين استأثروا بمكاسب الثورة من دونهم كما يعتقدون.
بعد مرور 11 عاما على الثورة، أصبحت الصورة واضحة تماما، تمايزت الصفوف، وظهر جليا من أخلص للثورة وشهدائها ومبادئها، ودفع أثمانا ولا يزال حتى اللحظة، ومن خان وباع وفرّط، ومن أدرك الحقيقة بعد وقت قصير من الانقلاب، ودفع الثمن أيضا، اعتقالا أو مطاردة أو مصادرة لأمواله، أو ترحيلا خارج الوطن، وبالأوفياء فقط يمكن لمبادئ يناير أن تبقى متوهجة، وبهم يمكن استكمال مطالب الثورة “عيش..حرية..عدالة اجتماعية..كرامة إنسانية”.