سينما علي بدرخان.. عندما يقتل الجوع وينتفض الحرافيش

علي بدرخان

في لحظة غائمة لشفيقة تكتشف أنها كانت لعبة تعرضت لكل أنواع الاستغلال والخداع فقد خدعها الجميع، لم يشفع لها حبها وإخلاصها، فقد استغلها كل من أحبتهم في غياب الرجل الحقيقي في حياتها، قررت شفيقة أن تعلن صرختها وتعود إلى منزلها في انتظار قدرها.

في واحد من أهم مشاهد فيلم (شفيقة ومتولي) للمخرج علي بدرخان، تغني شفيقة من كلمات الشاعر الكبير صلاح جاهين وألحان كمال الطويل أشهر أغنية في الفيلم (بانوا بانوا) التي تستعرض فيها كيفية استغلالها وخداعها من الجميع، وتصرخ:

دوّروا وِشّكوا عني شوية

كفاياني وشوش

ده أكم من وِش غدر بيّا

ولا ينكسفوش

وعصير العنب العنابي العنابي

نقطة ورا نقطة.. يا عذابي يا عذابي

فيلم (شفيقة ومتولي) هو الثالث في مسيرة عشرة أفلام قدّمها المخرج علي بدرخان في تاريخه السينمائي الذي بدأ بفيلمه الأول (الحب الذي كان) عام 1973، وكان فيلمه الثاني (الكرنك) إنتاج 1975 ويأتي في المركز 39 لأهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، ولعلي بدرخان فيلم آخر في القائمة هو (أهل القمة) إنتاج 1981.

عشرة أفلام فقط عبر مسيرة طويلة امتدت نصف قرن، كانت الأفلام الثلاثة من أهمها ويضاف إليها فيلم (الجوع) إنتاج 1986، أربع علامات بارزة في السينما المصرية، دليل على أن القيمة ليست في كمّ الأفلام ولكن في محتواها.

فيلم (شفيقة ومتولي) مأخوذ عن الراوية الشعبية للدكتور أحمد شوقي عبد الحكيم، واحدة من الأساطير الشعبية التي تم تناولها عبر التراث الشعبي المصري، وكتب السيناريو والحوار صلاح جاهين، وحوّل علي بدرخان القصة إلى ملحمة فنية حقيقية مع تقديم جوّ غنائي شعبي تألق فيه أبطال الفيلم بأدائهم مع موسيقى ملحن مصري آخر لم يأخذ نصيبه من الشهرة هو إبراهيم رجب.

في أجواء حفر قناة السويس بمصر في عهد الخديوي سعيد تبدأ أحداث الفيلم، حيث يعيش الأخوان شفيقة ومتولي. متولي هو النموذج للمصري “الجدع” الذي يحتفظ بالشهامة والقوة، يرفض متولي الهروب من السخرة ويذهب إلى السويس لشق القناة، يترك شفيقة لتكون محط أطماع الجميع، وتنتقل من حال إلى حال، من يد إلى أخرى، وفي كل حال كانت تعرف أن مصيرها محسوم حين يعود الغائب.

في ثنايا الحكاية نشاهد كيف تم استغلال المصريين في حفر القناة، كيف ماتوا بالسخرة، صراع المال والبيع والشراء الذي يقوم به الكبار في خدمة أصحاب القناة، كيفوا تركوا الكوليرا تنهش في أجساد من حفروا القناة، حتى تجارة العبيد التي اختفت أعادوها مرة أخرى في سبيل المال.

استطاع جاهين وبدرخان أن يقدّما بالكلمة والصورة مأساة متوازية بين حالة شفيقة وحال الوطن حتى في تجارة البشر، الجوع كان السبب الرئيس لمشوار شفيقة ومأساتها في الحياة، وكان الفقر مأساة شفيقة ومصر مع الجهل والمرض، فكانت الصرخة التي أطلقتها شفيقة وغادرت في انتظار مصير محسوم.

الجوع.. صناعة الديكتاتور وانتفاضة الحرافيش

فيلم (الجوع) لعلي بدرخان أحد الأفلام التي لم تأخذ حظها من الشهرة، ربما لكونه جاء ضمن سلسلة طويلة من الأفلام المأخوذة عن روايات (الحرافيش) لنجيب محفوظ، وتم التعامل مع الفيلم على أنه رواية مكررة، لكن على بدرخان المخرج وكاتب السيناريو والحوار تعامل مع الرواية والحكاية المكررة بشكل مختلف.

الفيلم -كعادة سلسلة الحرافيش- يبدأ بفتوّة ظالم وحفيد الفتوّة العادل الذي مات وتوارت العائلة، فرج الجبالي يعيش في حاله رغم أنه يرث القوة والقدرة على “الفتوَنة”، وفي لحظة غضب يتفوق على الفتوّة، وتنادى الحرافيش به فتوّة يعيد أمجاد الجبالي القديم.

يتولى فرج الجبالي “الفتوَنة”، لكنه لا يَسلَم من أصحاب المصالح من التجار، وفي وجود عقدة نفسية يتم السيطرة عليه وصناعة ديكتاتور جديد من خلال المال والضغط المتتالي عليه، وباستخدام شيوخ السلطان وكل الإغراءات.

يعود الحرافيش بعد فترة قصيرة جدا من الفرح إلى الفقر والجوع والمرض، وتزداد الحالة بمجاعة وانقطاع المطر، وفي ظل هذا يقوم الفتوّة وكبار التجار بتخزين البضائع والغذاء واستغلال الشدة التي يعاني منها الجميع، ليظهر جابر الجبالي شقيق فرج الذي يعيش وسط الحارة ومع أهلها ولا يوافق على ما يقوم به شقيقه، ويأخذ من مخازنه ويعطي للفقراء.

يفرح الحرافيش، ويكتشف فرج الأمر فيقوم بحبس جابر، فتعمل زوجته على تجميع الحرافيش وتخلّص جابر من السجن، ويتحد الحرافيش في مواجهة الفتوّة ويتخلصون منه، ثم يحاولون إحلال جابر محل فرج، لكنه يرفض ويشرح لهم أنه يمكن أن يتحول إلى فرج آخر، وإنما الحل الوحيد هو التعليم والعمل والإنتاج وأن يكون الجميع يدا واحدة دائما حتى لا يستطيع أحد أن يتحول إلى مستبد وفتوّة جديد.

(الكرنك) فيلم عابر للزمن.. ولكن!

الكرنك هو فيلم عن رواية لأديب مصر الكبير نجيب محفوظ بنفس الاسم، وقد قدّم علي بدرخان خلال رحلته السينمائية ثلاثة أفلام عن روايات لمحفوظ، والفيلم الثالث كان (أهل القمة) وكانت سعاد حسني بطلة للأفلام الثلاثة، ولستة أفلام من إخراج بدرخان، أما صلاح جاهين فكان المشرف الفني على فيلم الكرنك، وهو الفيلم الأول لجاهين وبدرخان معا، ثم بعده كان شفيقة ومتولي.

الكرنك عُرِض في بداية سلسلة أفلام عن التعذيب بالسجون في الستينيات، ربما كان هذا التحديد هو ما جعل الفيلم الإنساني العابر للأزمنة يقابَل بكثير من الهجوم، رغم حلوله في قائمة أفضل أفلام السينما المصرية.

الحكاية الدائمة بين من يتصور أنه حامي النظام والوطن من أعدائه، والباحثين عن غد أفضل وإصلاح الأخطاء، ولكن يبقي دائما أن هؤلاء لا يتصورون نقدا ولا مناقشة ولا تفكيرا، وتسعى دائما أجهزة الأمن لمصالحها واستمرار سلطانها بأن تقول للحاكم إنها تحمي نظامه الثوري أو الوطني وتحمي دولته.

في هذه الحالة القاتمة تطول قائمة الاتهامات (شيوعي أو إخواني أو تنظيم ثوري)، المهم أن نجد قائمة اتهامات قد تتحول من الضد إلى الضد، تحت مسمّى حماية الوطن، ستفاجأ خلال مشاهدة الفيلم أنه لا شيء تغيّر، نفس الحال، الشعب يئن من الغلاء والفقر وغياب الحرية، وفي الوقت ذاته مقولات إن الوطن يمر بظروف صعبة لا بد للشعب من احتمالها، وصراع بين أجيال تسعي للعدل، وأجهزة تسعى لاستمرار السيطرة والمصالح الشخصية.

أهل القمة.. انفتاح اقتصادي

أربعة أفلام قدّمها علي بدرخان لها قيمتها الفنية السينمائية، أما الرابع فكان (أهل القمة) وهو الفيلم الذي تناول فيه بدرخان عن رواية محفوظ التأثير القيمي في المجتمع الناتج عن سياسة الانفتاح الاقتصادي، وكيف يتحول المهربون و”تجار الشنطة” إلى رجال أعمال وأصحاب نفوذ يستطيعون هزيمة أي قيمة للعلم والإخلاص والأمانة في العمل، صراع أبطاله لص سابق تحوّل إلى تاجر ورجل أعمال، وضابط شرطة ملتزم ويحترم مهنته والقانون، وفي النهاية يكسب الصراع اللص الذي أصبح صاحب نفود.

ملاحظة أخيرة

بطلة هذه الأفلام الأربعة كانت سعاد حسني، ومنذ فيلم بدرخان الأول (الحب الذي كان) دخلت السندريلا والممثلة -التي كانت مثالا للفتاة المتمردة والشقية في الأفلام- مرحلة جديدة من تاريخها السينمائي، وقدّمت نماذج جديدة عليها من خلال شخصيات ذات عوالم مختلفة، واستمرت بعد ذلك في تقديم أدوار ناضجة كما في فيلم (على من نطلق الرصاص؟) إخراج كمال الشيخ، و(موعد على العشاء) لمحمد خان، ومن خلال أفلام بدرخان قدّم الوجه الجديد أحمد زكي بطلا لفيلم (شفيقة ومتولي) وكان بطلا لأربعة أفلام لبدرخان، وكذلك نور الشريف الذي كان بطلا لفيلمَي (الكرنك) و(أهل القمة).

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان