كيف صنعت الصين المعجزة؟!

الرئيس الصيني

تثير التجربة الصينية وتحولها المذهل من دولة نامية فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى خلال 4 عقود فقط، شهية كثيرين، للتعرف على أسرار نهضة أكبر تعداد سكاني، وكيف صنع تلك المعجزة في زمن قياسي. لا بد من الاعتراف بوقوعنا في غرام الصين، مدفوعا بعشق لثقافتها العريقة، وحب عميق لشعبها الطيب في أغلبه، الذي يشبهنا -نحن العرب- في كثير من تقاليدنا. احتاج الأمر للخروج من فتنة الصين دراسة وتعايشا عن قرب استمرا نحو 20 عاما، مع ذلك وقفت مشدوها عندما غصت في أعماقها، حيث إدارة شؤون الحكم والإعلام والمال في دولة، يمكن لمقال واحد يبجل قادتها أن يحول صاحبه إلى مليونير، بينما كلمة نقد تلقي بقائلها إلى التهلكة.

عملت ضمن فريق من الخبراء الأكاديميين والإعلاميين والسياسيين المبشرين بدور الصين في تحقيق التنمية لشعبها، مدافعا عن رؤيتها كدولة ناهضة، يجب أن يفسح لها العالم دورا كي تساهم في تحرير الشعوب النامية من مخلفات حقبة الاستعمار. سرنا وراء الصين إلى أن اكتشفت بعد عقدين أننا نمشي مثل كثير من العرب والعالم النامي وراءها إلى المجهول. فالصين التي نؤمن بها، شهدت تحولات مثل البشر، تغيّرت وتغيّر كل ما فيها. تذكرت عند الإفاقة قولة مسؤول إعلامي كبير، ذكرها أمامي لغرض في نفسه، عندما شرعت في إبرام عقود أعمال مربحة منذ 9 سنوات “الآن ستعرف الصين الحقيقة، فلا عشاء دون مقابل”!

أوربا في مستنقع الاستبداد

حولت تلك الكلمات مفتاح التعامل مع الصين بأسرها، فعين المحب لا ترى في المحبوب عيبا. هالنا أن نشهد انزلاق كثير من الأنظمة العربية والإسلامية في التحالف مع الصين، وإن جاء على حساب كثير من دماء المسلمين، ومصالحهم ذاتها التي يتجاهلونها لحساب عدو محتمل. وبدأت نخبة من المفكرين ومنهم من ينتمون للفكر الغربي، تنادي في تلك الآونة بالتوجه شطر الصين، متخلّين عن ماضيهم الليبرالي، طالما أن ذلك يصب في صالح حكامهم ورؤسائهم من قادة الانقلاب العسكرية والدستورية، ويحقق لهم البقاء فوق مقاعدهم. حتى أوربا معقل الديمقراطية والنظم الليبرالية، أصبح أصدقاء الصين بها أغلبية في اتحادها، فهم الذين دعوا قادة الانقلابات في أفريقيا لحضور أكبر تجمّع لزعماء القارتين، لتحديد مستقبلها، وتكريم قادة شهدوا بجرائمهم، وقد كانوا بالأمس يرفضون مقابلتهم!

أوقعت الصين فتنة في عقول القادة والساسة العرب وغيرهم، فمصادر الإبهار الآن في أوج فتراتها. فقد نما اقتصاد الصين بما يوازي 3 أضعاف الاقتصاد الأمريكي منذ عام 1990. تحولت اقتصاديا إلى دولة عظمى، بخلق نموذج اقتصادي مميز، يدّعي تمسّكه بالشيوعية والاشتراكية، بينما يظل رأسماليا لا يمثل خطورة على النظام الدولي ولا يتعارض مع التجار والحكام المسلمين والعرب. تجاوز اقتصاد الصين اليابان -عدوها اللدود- منذ عام 2016، ويُتوقع أن تصبح الدولة الأولى عالميا بحلول عام 2032، وسيرتفع الدخل الفردي ليصبح مماثلا لدخل المواطن الأمريكي عام 2050، بعد أن كان يمثل ربعه فقط عام 2021. يدير الحزب الشيوعي ما يسمّى “رأسمالية الدولة” ويقوم نظامها بدور قوى في إدارة رأس المال، ويملك خبراء تكنوقراط قادرين على دمج الاقتصاد في النظام العالمي.

عند هذه النقطة، ظهر ما يأمل فيه قادة الدول بالمنطقة، من الذين يعدّون أنفسهم خلفاء الله، في إدارة ثروات الشعوب، أو جاءوا عبر انقلابات، ويسعون إلى إدارة ثروات شعوبهم بعيدا عن الرقابة الشعبية والقانونية، والتصرف فيها وفقا لأهوائهم، طالما يعتقدون أن لديهم من الكفاءة والقدرة ما يمكّنهم من توجيه هذه الأموال في مشروعات تخدم الوطن.

 

محاكم وقضاء خارج القانون

رأى المستبدون العرب وحول العالم في الصين نموذجا لهم، إذ تتجنب ما يكرهونه، فليس لديها انتخابات حرة أو اقتراع عام، ولا تسمح بالحريات المدنية، فلا مطبوعات ولا إذاعات ولا قنوات إعلامية خاصة، ولا حرية تعبير، وتفرض قيودا غليظة على الإنترنت. لا يوجد في الصين الشيوعية أي تنظيمات نقابية بعيدة عن الحزب الشيوعي، والقضاء يديره موظفون في الحزب والدولة، ولا مساواة في القانون. المسؤول الحزبي يحاكَم أمام قضاء الحزب، ويوضع في سجون بمقراته، وقد يُعدم المتهم دون أن يعلم أهله عريضة الاتهام وأسباب المحاكمة، لأن قادة الحزب وإن اعترفوا بوجود فساد ممنهج يرتكبه قادته والملايين من صغار البيروقراطيين في الدولة والحزب، فإنه لا يجب الكشف عنه إلا عن طريق الحزب، ولا يناقَش في العلن. فالنموذج الصيني يسمح للمواطن بالتمتع بالأمن العام والدراسة والعمل، وهي الأمور التي يشعر فيها المرء بكثير من حريته، بينما حقه في السفر مقيد بالداخل، وزاد سوءًا مع انتشار وباء كورونا، ولا يحمل 80% من المواطنين جواز سفر للخارج.

 

الدولة فوق الشعب

يتميز النموذج الصيني بقدرته على توظيف القبضة الأمنية في تحقيق الاستقرار، والتخطيط للنهوض بالاقتصاد لفترات زمنية طويلة، وهي أمور ينظر إليها الصينيون بالرضا إذا تحققت، ويقبلها المواطن في إطار عقد اجتماعي متوافَق عليه منذ العهد الإمبراطوري، لأن الدولة بالنسبة إليه ممثلة في رأسها، سواء كان إمبراطورا أو مرشدا أعلى للحزب الشيوعي، فالقائد هنا مصدر الفخر والضامن للاستقرار، بعيدا عن أي رقابة أو مساءلة. فالشعب هنا ليس مصدرا للسلطات، كما تؤمن النظم الديمقراطية، أو “الأمة فوق الحكومة” كما كان يقول الليبراليون في مصر، وإنما “الدولة فوق الشعب” والحاكم هو ممثل هذه الدولة.

ليس مستغربا أن يقع العرب وقادة الاستبداد حول العالم في غرام النموذج الصيني، الذي يوقعهم في نظم “الجدارة الاستبدادية” (Authoritarian Meritocracy)، فهذا يتيح لهم التنصل من السيادة الشعبية لصالح مزيج من الاستبداد السياسي والتكنوقراطية، وفقا لتعريف المفكر الكندي دانييل يل للجدارة السياسية، مع ذلك يدّعي رئيس الصين شي جينبينغ أن نظامه غير قابل للتكرار! ويقول “نحن لا نستورد النماذج الأجنبية ولا نصدّر نموذجنا لأحد، ولا يمكننا أن نطلب من البلدان الأخرى إعادة إنتاج فوري لهذا النظام، وعلى كل دولة أن تبتكر نظامها الخاص المناسب لها”. يؤمن شي بأن “كل قدم تحتاج الحذاء المناسب لراحتها”. يحاول قادة الحزب الشيوعي تعميق هذا المفهوم، في كل لقاءاتهم معنا والضيوف الأجانب، لإبعاد أي شبهة عن رغبة الحزب الشيوعي في تصدير “أفكار للثورات، أو تأجيج القادة المحليين ضد قادتهم”.

الصين والتراث الاستعماري

ترسل الصين إشارة إلى الآخرين، بأنها تسعى “للتعاون والتنمية والاستقرار والسلام”. تخفي الصين أي نيّات للقيام بما مارسه الاستعمار الغربي، من احتلال أو تدخّل في أعمال الغير، بينما في الواقع تمارس ذلك منذ خمسينيات القرن الماضي، عندما احتلت أراضي التبت، وضمت إليها تركستان الشرقية، وتفرض سطوتها على أحواض الأنهار الدولية، بما يمنع المياه العذبة عن الدول المجاورة لها. تسيطر بالقوة على مياه بحر الصين الجنوبي، وتحول دون ممارسة 10 دول تطل عليه حقوقها لاستغلال الشواطئ والثروات البترولية المتفجرة به.

دفع انتشار تأثير النموذج الصيني للاستبداد في أوربا وأنظمة ديمقراطية عريقة، مؤسسة (إيكونوميست إنتليجنس) البحثية العريقة، إلى دراسة “مؤشر الديمقراطية لعالم 2021” لظاهرة “تحدي الصين” للديمقراطية في جميع أنحاء العالم. يستند المؤشر إلى الحريات المدنية والثقافة، والمشاركة السياسة وأداء الحكومات، والعملية الانتخابية والتعددية. يصنف المؤشر 167 دولة شملتها دراسات دقيقة على مدار العام الماضي، إلى “ديمقراطية كاملة” حيث حرية الانتخابات مع حرية المجتمع المدني والإعلام الحر تماما. ويصف دول “الديمقراطية المعيبة” بأن بها حرية انتخابات مع وجود انتهاكات لحرية الإعلام، بينما “النظام الهجين” تُجرى به انتخابات تُرتكَب فيها مخالفات تحول دون نزاهتها، في ظل ضعف سيادة القانون مع قضاء غير مستقل والضغوط التي تمارَس ضد الصحفيين. ويركز التقرير على دراسة النوع الرابع، وهو “النظام الاستبدادي”، حيث يكون على رأسه ديكتاتورية صريحة، في ظل غياب التعددية السياسية، أو توجد به بعض المؤسسات الديمقراطية ليس لها مضمون، وإذا حدثت انتخابات فلا تكون حرة أو نزيهة، مع امتلاك الدولة وسائل الإعلام، أو تسيطر عليها مجموعات مرتبطة بالنظام الحاكم.

تحالف الاستبداد بين عرب وعجم

كشف التقرير عن وجود ديمقراطية كاملة في 21 دولة فقط، و53 دولة بها ديمقراطية معيبة و34 دولة بها نظام هجين، بينما الصين تقود 59 دولة ذات أنظمة سلطوية استبدادية، حيث تحتل المرتبة 148 من بين 167دولة شملتها الدراسة، وجميع تلك الدول ترتبط بها ارتباطا وثيقا.

يبيّن التقرير زيادة تآكل الحريات المدنية مع خروج وباء كوفيد-19 من الصين، الذي تعرضت معه حرية التعبير والحرية الدينية للهجوم في دول الديمقراطية المتقدمة والاستبدادية. وتسبب انتشار الوباء في انخفاض الثقة الشعبية بالمؤسسات الديمقراطية، لدرجة بروز فئة بلغت نسبتها 17% في فرنسا والولايات المتحدة تؤيد الحكم العسكري، و26% يوافقون على أن “الزعيم القوي” يمكنه اتخاذ قرارات دون تدخّل من البرلمان أو المحاكم، و24% من المبحوثين من 38 دولة يوافقون على “حكم الجيش”، وفقا لاستطلاع أجراه مركز (بيو) للأبحاث عام 2021. أظهر الاستطلاع أن الدافع الرئيس للسخط الشعبي من النظم الديمقراطية هو عدم الرضا عن الأداء الاقتصادي وخيبة الأمل من عدم المساواة. تصب تلك النتائج المتكررة خلال السنوات الأخيرة في خانة النموذج الصيني، الذي يدّعي قدرته على محاربة الوباء بكفاءة أعلى من النظم الغربية، وقدرته على تحقيق إنجازات اقتصادية متنامية ومستمرة، بينما يزعم أن الدول الديمقراطية تعاني من خلل بسبب الخلافات الحزبية والسياسية.

التدين والإبداع.. حريات محظورة

يتجاهل قادة الصين الانتكاسات التي يتعرض لها الصينيون في الآونة الأخيرة، من تراجع في عدد الوظائف وزيادة التضخم والتفاوت الهائل لمستويات الدخول، وأهمية دور المجتمعات الحرة في تحفيز الابتكار والإبداع الفردي، وقيمة الجانب الروحي الذي يحمي الحريات الدينية والإنسانية التي يحاربها الشيوعيون. كما يتهربون من دورهم في انتكاسة الديمقراطية بالدول المحيطة بهم مثل ميانمار وتايلاند، ورعايتهم لأنظمة قمعية في كوريا الشمالية وكمبوديا وفيتنام ولاوس وآسيا الوسطى.

كما تدعم الصين الانقلابات العسكرية في أفريقيا والصراعات في أمريكا اللاتينية، وتتعامل مع قادة الاستبداد طالما حافظوا على امتيازات الشركات الصينية. يدور في فلك النموذج الصيني الاستبدادي 17 دولة عربية، وفقا لتقرير إيكونوميست إنتليجنس 2021، بالإضافة إلى 16 دولة من أوربا الشرقية، وجميعها تحصل على دعم مالي وسياسي من الصين، بينما فرنسا وألمانيا في مرتبة الحلفاء. فليست هناك مصادفة أن تتحالف تلك الدول لاستضافة قادة انقلابات من أفريقيا والشرق الأوسط بمقر الاتحاد الأوربي في بروكسل الخميس الماضي، لبحث الاستقرار والرخاء والأمن على الطريقة الصينية!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان