شيء من الخوف.. ومن يجرؤ على الكلام

شادية في شيء من الخوف

فيلم (شيء من الخوف) من إنتاج المؤسسة العامة للسينما المصرية عام 1969 من إخراج حسين كمال عن قصة الأديب ثروت أباظة أحد أهم كلاسيكيات السينما المصرية، والفيلم الحاضر دومًا في وجدان الشعب المصري بجملته الشهيرة: (جواز عتريس من فؤاده باطل)، وهي جملة الشرعية لدى عامة المصريين، والتي تشهد حضورًا كبيرًا في الأزمات السياسية والاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية.
الفيلم يحتل المركز التاسع عشر في قائمة أفضل أفلام السينما المصرية تدور أحداثه في إحدى قرى الريف المصرية من خلال عصابة (عتريس) الذي يحكم القرية بالحديد والنار من خلال القتل والحرق والسلب والنهب، فتقع القرية تحت قهر الخوف والرعب يسيطر على جوانبها كلها، ويستغل (عتريس وعصابته) حالة الخوف في السيطرة على القرية من خلال فرض (الإتاوات المتتالية والمتصاعدة) على سكان القرية، ومن يجرؤ على الكلام يكون نصيبه القتل، وحرق منزله وزراعته.

تراث الدم والاستبداد

يطرح الفيلم قضية ميراث الدم، فرغم أن عتريس الحفيد مثل أطفال القرية كلها بريء ومسالم ويعشق الأرض والسلام والحمام، إلا أن جده يثور في وجهه ويريده أن يكون مثله (عتريس ظالم مستبد)، تستمر ثورة الجد طوال حياته في شحن الصبي وحتى مرحلة الشباب، (عتريس الجد غاضب من رقة الولد).

الشاب يعيش قصة حب مع (فؤاده بطلة الفيلم والرواية) التي يرمز بها أنها النقاء والقوة والأرض، يستغل الجد لحظة مقتله على يد أحد ضحاياه ليزرع القسوة كلها في قلب الفتى، الذي يتحول في لحظة ما إلى نسخة جديد من عتريس الجد المتغطرس المتجبر، ويظهر كل ميراث العنف والكراهية التي زرعها الجد بداخله على مدار عمر الشاب، وفي إشارة بالغة من المخرج حسين كمال تحول زي عتريس من اللون الأبيض في مشهد مقتل الجد إلى الأسود في المشهد الذي يليه.

مخرج الأدب المصري

قدّم المخرج حسين كمال صاحب (شيء من الخوف) 47 عملًا سينمائيًا أكثر من 90% من هذه الأفلام عن روايات أدبية، فقدّم أفلامًا لكبار الأدباء المصريين منها: (المستحيل) لمصطفي محمود 1965، (البوسطجي) يحيى حقي 1968، (أبي فوق الشجرة) إحسان عبدالقدوس 1969، وقدّم معه عشرة أفلام سينمائية على مدار تاريخه، وقدّم لنجيب محفوظ ثلاث روايات منها: (ثرثرة فوق النيل) 1971، و(حب تحت المطر) 1975، وقدّم ليوسف إدريس فيلمين (النداهة وعلى ورق سيلفان)، ولنجيب طوبيا ( قفص الحريم)، وليوسف السباعي (حبيبي دائمًا) واحد من أيقونات السينما الرومانسية، ولوحيد حامد (كل هذا الحب) هذا الكم الكبير من الأفلام المأخوذة عن روايات أدبية يمكننا أن نطلق على حسين كمال لقب مخرج الأدب السينمائي.

من يجرؤ على الكلام

لم تكن فؤاده (لعبت الدور الفنانة المصرية الكبيرة شادية) تحتمي في حب عتريس لها في تصرفاتها، فقد أسس الفيلم لتلك الشخصية القوية من الصغر، وهي وحيدة أبويها اللذَين رباها على القوة والشجاعة، لذا كنت تجدها دائمًا في صف الحق، وعندما تعسف عتريس مع أهل القرية بعد مقتل أحد رجال عصابته، قطع المياه عن الأرض أيامًا حتى تشققت الأرض، قامت فؤاده بفتح (هويس المياه) وسط ذهول الجميع من أهل القرية.
فتح الهويس وحزب الكنبة
الزرع جف.. الضرع جف.. الأرض بتقول غيثوني
جف الشجر.. مات القمر.. الأرض بتقول غيثوني
استطاع حسين كمال مع عبد الرحمن الأبنودي وبليغ حمدي أن يقدموا هذا المشهد المهم في الفيلم بتفاصيله كلها من خلال الأرض التي تشققت بغياب المياه، والوجوه التي اكتست بالحزن والغم، وصور النساء المتشحات بالسواد كأنه حزن على الحال.

أخطر ما في المشهد من حيث المحتوى فهو تصوير تلك الجموع الصامتة التي يلفها الخوف، فلا تحرّك ساكنًا فالأرض تموت والزرع يموت ولا يجدون طعامهم ولا يستطيعون الحركة من الرعب، كل شيء في البلدة ينتهي، والكل صامت، حتى عندما تتقدم (فؤاده لتفتح هويس المياه) لا أحد يتحرك ولا أحد يساعدها، فلتتحمل النتيجة أن كانت قد جرؤت على الكلام.
منتهى السلبية التي يبدو أنها ميراث طويل أيضًا كميراث عتريس وميراث فؤاده النفسي، وعندما تنتهي من مهمتها وتفتح المياه لتروي الأرض، يفرح الجميع ويرقصون، والنساء تطلق الزغاريد، والأطفال يتراقصون، وعندما يأتي عتريس ورجاله يهرب الجميع تاركين فؤاده وحدها تواجه المصير.

جواز عتريس من فؤاده باطل

تواجه فؤاده عتريس ويهرب من عينيها القوية، ليبحث عن طريقة يداوي بها ما حدث فيقرر زواجها، وكأنه بهذه الطريقة يحتويها، لكن كان لفؤاده موقف آخر فقد نقض عتريس عهدهما (بيني وبينك الدم يا عتريس)، فمع أول طلقة رصاص ومقتل رجل من القرية فقد عتريس شرعيته وقلبه الأخضر وبراءته التي هي عهد الحب بينهما.
ترفض فؤاده إعطاء التوكيل للزواج، ولا يستطيع أحد أن يخبر عتريس، فتكون في منزله بعقد باطل شرعًا لعدم رضاء أحد طرفي العقد، وعنما تواجه فؤاده عتريس بالحقيقة، ينتقم من الجميع، ولكن هذا لا يجعل العقد صحيحًا، يقود الشيخ إبراهيم (شيخ القرية) الإعلان عن بطلان العقد، فيقتل عتريس ابن الشيخ (محمود) في ليلة زفافه، ليكون الدم هو انتفاضة الرفض، (تحرق الزرع الجوازة باطلة.. تقتل محمود الجوازة باطلة)، وتتحول جنازة الفتى إلى ثورة عارمة (في مشهد سينمائي مبدع صوّره حسين كمال بالمشاعل والجموع) ضد عتريس تنتهي بحرقه داخل منزله، ولتظل جملة (جواز عتريس من فؤاده باطل) أيقونة للشرعية في كل زمان ومكان، ولتبقي تلك الجملة السينمائية دلالة على تأثير الفن الصادق المنتمي إلى بيئته.

يبقى في النهاية

إن هذا الفيلم الذي قدّم في نهاية الستينيات قد وفرت له مؤسسة السينما الإمكانيات كلها ليخرج واحدًا من أيقونات السينما المصرية، كما أن الفيلم شارك فيه مجموعة من كبار الممثلين المصريين الذين أبدعوا في تقديم أدوارهم ويستحقوا إشادة خاصة على راسهم شادية (فؤاده)، محمود مرسي (عتريس الجد والحفيد)، يحيى شاهين (الشيخ إبراهيم)، محمد توفيق (والد فؤاده)، أمال زايد (والدة فؤاده).

قدّم الفيلم ثلاث وجوه سينمائية جديدة هم محمود يس وبوسي وحسن السبكي (محمود بن الشيخ إبراهيم) أحمد توفيق (رشدي)، وكل المشاركين بالتمثيل.
أما الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي (شارك في كتابة الحوار) فقد قدّم مع العبقرية المصرية الموسيقية بليغ حمدي أروع الأغاني والألحان في الفيلم.
البلد اسمها الدهاشنة…المكان محدش دلنا
يمكن مكانتش أبدًا…يمكن في كل مكان
يمكن محصلش أبدًا…يمكن في كل زمان

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان