ذرائع بوتين تفضح ازدواجية الآخرين

أوكرانيون يحتجون (اليوم) في اسطنبول على الاعتداء الروسي على بلدهم

اشتعال النيران كان متوقعًا منذ أشهر، فقط كان الجميع ينتظر الشرارة، وقد أطلقها بالفعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإعلان الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المزعومتين وانفصالهما عن أوكرانيا.

وفي حين شرع العالم كله في ضبط موقفه وتموضعه وفقًا لهذا القرار الروسي، نجد أن الولايات المتحدة وأوربا، على الرغم من تشجيعهما المستمر لأوكرانيا على مجابهة روسيا، قد تخلتا عنها منذ هذه اللحظة كما يبدو، وهذا أمر متوقع بطبيعة الحال.

أما روسيا فهي تدرك منذ البداية أن العقوبات الاقتصادية التي ستعلن ضدها لن تتجاوز مجرد إلغاء اتفاقيات تجارية أو ما شابه، ولا أحد يتوقع في الأصل أن تردع هذه العقوبات موسكو.

يعد الخطاب الذي ألقاه بوتين خلال اعترافه بانفصال هاتين المنطقتين مدخلًا مهمًا لإثارة النقاش حول القانون الدولي واتفاقيات الحدود جميعها التي وُقعت منذ القرن الماضي. لا تختلف الحجج التي ساقها بوتين لشرعنة قراره عن حججه في ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا عام 2014، لكن يبدو أن بوتين فضّل الحديث بشكل أوضح هذه المرة.

تعديل الحدود

لقد ذهب بوتين في خطابه إلى حقبة تأسيس الاتحاد السوفيتي، وتحدّث حول “تعديل” الحدود التي رسمت في تلك المرحلة، وذكر أن زعيم الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفيتي فلاديمير لينين تسبب في تقسيم البلاد عبر الهيكل الاتحادي الذي أسسه على أنقاض الإمبراطورية الروسية، كما تسبب بضياع أراضٍ روسية تحولت إلى دول منفصلة مع مرور الوقت.

ثمة إشكالية كبرى في المنطق الذي يتبناه بوتين، محاولًا القول بأن أوكرانيا ما هي إلا دولة قامت بسبب سياسة لينين الخاطئة، وبالتالي يجب تصحيح هذا المسار اليوم وضمها لروسيا مرة أخرى. إنه منطق مثير للجدل بشأن حدود العالم كله اليوم، ومن الممكن أن تقوم دولة أخرى فتغزو أو تضم دولة مجاورة لها على هذا الأساس. فأي دولة بإمكانها خلق الذرائع للعودة إلى وضع ما قبل الحرب العالمية الأولى وما قبلها من أحداث وصراعات أسهمت في نشأة دول وذهاب أخرى.

في هذا السياق، يمكن النظر إلى احتلال صدام حسين للكويت عام 1990، حيث قامت هذه الخطوة على حجة أن الأراضي الكويتية كانت جزءًا من العراق، وأن التدخلات الإمبريالية البريطانية هي التي فصلت البلدين، ولقد حاول صدام العثور على مبرر لاحتلاله الكويت، عبر الإشارة إلى العلاقات التاريخية، والاتفاقيات القديمة بين الدولة العثمانية وبريطانيا والعراق.

ونتيجة لذلك اتخذ العالم، وعلى رأسه الولايات المتحدة، موقفًا واضحًا ضد هذا التحرك، كي لا يتسبب ذلك بخلق وضع جديد وفرض أمر واقع عبر فتح الدفاتر القديمة وما شابه. بالطبع فإن المزاعم التي تقول بأن الولايات المتحدة هي من دفعت صدام لغزو الكويت وشجعته على ذلك قضية أخرى، لكن المهم هو أنه في نتيجة الأمر لم يسمح لصدام حسين بغزو الكويت وضم أي جزء من دولة أخرى لأراضيه على أساس أنها كانت أو لم تكن، وهكذا وضع القانون الدولي في ذلك الوقت حدًا واضحًا لهذا الأمر.

لكن مع ذلك، كان من الواضح أن هذه الحساسية التي أظهرتها الولايات المتحدة بشأن غزو الكويت كانت مرتبطة فقط بمصالحها الخاصة، واتضح أن موقفها كان هدفه الاستغلال بشكل مفرط، ولم تكن هناك أي مؤشرات في ذلك الوقت أو بعده توحي بأن الولايات المتحدة تصرفت بدافع أخلاقي.

فبعد 12 عامًا فقط من غزو صدام للكويت، غزت الولايات المتحدة ذاتها العراق بذريعة زائفة وحجج واهية، وأشعلت النار في جذور السلام والاستقرار في العراق والشرق الأوسط منذ ذلك الحين.

شرعنة الاحتلال

ومن المعلوم للجميع أيضًا أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال بعيدة كل البعد عن أي موقف حساس إزاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ولا تكترث لذلك أصلًا، لدرجة أنها أعلنت القدس التي تعرّفها قرارات الأمم المتحدة مدينة محتلة، عاصمة لإسرائيل، وشجّعت الدول على فعل ذلك، ونقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس، ولم تكتف بذلك، بل أعلنت أن مرتفعات الجولان السورية والتي احتلتها إسرائيل عام 1967 إسرائيلية، ما يعني أن إسرائيل ضمت الجولان لها بدعم أمريكي واضح.

ولو سألنا عن الحق أو الحجة وراء مطالب إسرائيل منذ البداية بما تدعيه من حق في الأراضي الفلسطينية، فهل يوجد مبرر آخر غير زعمهم بأن هذه الأراضي كانت لليهود قبل 2500 عام؟ تخيلوا أن إسرائيل تمكنت في عالمنا المتحضر العلماني اليوم من غزو شعب واحتلال أراضيه بكل وحشية وهمجية اعتمادًا على نص كتاب مقدس لا غير.

فهل يمكن للولايات المتحدة التي تقدم كل سبل الدعم اليوم لهذا الاحتلال الغاشم، أن تقف في وجه روسيا وتمنعها من فعل الشيء ذاته؟ وإذا كان بإمكانها فعل ذلك، فعلى أي أساس أخلاقي أو عادل يمكن أن تعتمد إذن؟

بالطبع هذا لا يعني أن الولايات المتحدة لن تتخذ أي خطوة ردة فعل ضد روسيا، لكن مع ذلك فإن ردود فعلها لن يكون لها أي أساس أخلاقي، وبالتالي لن تحمل أي تأثير خطير على روسيا.

وفي الواقع لم تتبع الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة نهجًا مطمئنًا جديرًا بالثقة إزاء حلفائها في حلف الناتو الذي تقوده، وكذلك إزاء أصدقائها الآخرين، وخلال إجراء حساباتها الخاصة فيما يتعلق بأوكرانيا لم تقدم أي وعود أو ضمانات حول توفير حماية حقيقية لكييف، كذلك أوضحت الأزمة الأوكرانية أن حلف الناتو لا يوفّر حماية حقيقية لأمن أوروبا اليوم، وليس لديه عقوبات جدية في هذا السياق.

لا تشعر دول أوربا الشرقية على وجه الخصوص بالأمان إزاء روسيا، بشكل يفوق ما كان عليه الوضع إبان الحرب الباردة، والسبب هو أن كثيرًا من هذه الدول أهملت تطوير أنظمة الأمن والدفاع الخاصة بها، واعتمدت على حماية الناتو فحسب.

نرجو أن تكون العواقب سليمة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان