لماذا تنزلق الصين في غزو أوكرانيا؟!

الرئيسان: الروسي والصيني

انزلقت الصين في الحرب الدائرة في أوكرانيا. من عادة الصين أن تمسك العصا من المنتصف في الأحداث الساخنة، ولا تقحم نفسها في خضم حروب، أو تتلاعب بمعارك سياسية إلا فيما يعني مصالحها الخاصة جدا. الصينيون يرددون علينا دوما حكمتهم القديمة: “إذا نزلت إلى النهر فتحسس الأحجار تحت قدميك”. فهل كان غريبا أن تلقي الصين بثقلها في أزمة تبعد عن حدودها آلاف الأميال، وعلى درجة عالية من الخطورة، ولم تمسك كعادتها العصا من المنتصف؟!

في يناير الماضي احتفلت الصين بمرور 30 عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وأوكرانيا. ووجه الرئيس شي جينبنغ، رسالة تهنئة إلى رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي “يعلق فيها المزيد من الآمال على تطوير تلك العلاقات” المبنية على الثقة السياسية والتعاون المثمر في مختلف المجالات”. فالصين أصبحت الشريك التجاري الأول لأوكرانيا، وأدخلتها ضمن مشروع “الحزام والطريق” الذي رصدت للدول المشاركة فيه مساعدات قيمتها تريليون دولار.

تناقض الصين

أظهرت الحرب تناقض مواقف شي جينبنغ، فهو نفس الرئيس الذي يدعم الموقف الروسي علانية قبل بداية الحرب، وضمنيًّا بتصريحات وزير خارجيته بعد دخول القوات الروسية الأراضي الأوكرانية. اجتمع شي مع الرئيس بوتين، الذي كان أول قائد أجنبي يدخل بكين بعد ظهور وباء كورونا عام 2020، لمدة 3 ساعات، قبيل انطلاق أولمبياد بكين الشتوية في 4 فبراير الجاري. وكان أمرا عاديا أن يسفر الاجتماع عن صفقات بلغت قيمتها 117 مليار دولار لشراء البترول والغاز من موسكو، فقد جاوز التبادل التجاري بين البلدين عام 2021 نحو 140 مليار دولار. تنفذ الدولتان اتفاقية تعاون استراتيجية منذ عام 2014 قيمتها 800 مليار دولار، ويتعامل الطرفان باليوان الصيني والروبل الروسي في إطار الاتفاق، لمساعدة موسكو على مواجهة العقوبات الأمريكية والأوربية التي فرضت عليها، بعد احتلالها شبه جزيرة القرم في نفس العام.

حرصت الصين، بصفتها الشريك التجاري الأول لروسيا، على إقراضها ودعمها بالعملة الصعبة عبر البنوك الحكومية، على استحياء في تلك الفترة، بعد أن أدانت الموقف الروسي في مجلس الأمن لتعارضه مع اتفاق “مينسك” لوقف إطلاق النار. فالصين تعتبر هذا الاتفاق حجر الزاوية بشأن أي تسوية أو تفاوض حول استقلال منطقي دونيتسك ولوغانسك اللتين دخلتهما القوات الروسية، وهي مقتنعة بـ”مبدأ عدم تدخل الآخرين في شؤون الدول، للحفاظ على السلم الدولي”.

وسادة روسيا الاستراتيجية

قبل الأولمبياد ظهر موقف الصين متشنّجًا من أوكرانيا، فقد اعتبرت ما ذكرته الولايات المتحدة عن استعداد روسيا لغزو أوكرانيا تصريحات مزيفة ليس لها علاقة بأرض الواقع. وصدر بيان عن الاجتماع المطول بين شي وبوتين أعربت فيه الصين عن تفهمها ودعمها لموقف روسيا بشأن الأمن في المناطق المحيطة بها، ووقوف الطرفين ضد توسع حلف الناتو في أوربا. حصل بوتين على دعم اعتبره انتصارا دبلوماسيا كبيرا، عبر عنه رئيس المجلس الروسي للسياسة الخارجية الأسبق سيرجي كاراغانوف بقوله: “ظهر الطرفان كجبهة موحدة، لمواجهة حلف شمال الأطلنطي، ودعم من صديق في المواقف الصعبة، فالروس يعتبرون الصين وسادتهم الاستراتيجية، التي تقف بجانبهم في مثل هذه المواقف”.

واكب التحالف الروسي ذكرى مرور 50 عاما، على زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون للصين التي استهدفت إبعاد الصين عن الاتحاد السوفيتي لإضعافه. ورغم ارتكاب نيكسون خطأ استراتيجيا باعترافه بأن الحزب الشيوعي الصيني هو الممثل الوحيد للسلطة في الصين، أملًا منه في أن تساهم التنمية الاقتصادية والانفتاح الرأسمالي في نشر الحريات والتحول الديمقراطي بنظام شيوعي قمعي، فإن الصين بعد نصف قرن فقدت حماستها للولايات المتحدة، بل تريد أن تثأر لما سبق أن سكتت عنه من قبل، وتعيد الآن تحالفا استراتيجيا قديما بين بكين وموسكو.

لم تنس الصين أن الولايات المتحدة غدرت بها في اتفاق شانغهاي عام 1972، حول استعادتها جزيرة تايوان فورا. ورغم اعتراف واشنطن بوحدة أراضي الصين ومنح بيجين مقعدا دائما في الأمم المتحدة بدلا من تايوان، فإن التطورات دفعت الولايات المتحدة إلى مخاوف من إجبار تايوان على العودة بسرعة إلى حضن الدولة الأم. وها هي الصين تريد استعادة تايوان طوعا أو كرها.

قوة الصين المفرطة

يؤمن الصينيون بحكمة رددها الزعيم دينغ شياو بنغ، الذي أعاد انفتاح الصين على الغرب: “Hide your strength bide your time” وتعني “أخفِ قوّتك حتى يأتي زمنك”، وها هي الصين القوية تتراجع الآن عن التزامها بقيم القانون الدولي، وتعهداتها مع الدول الصديقة، لأن مصالحها العليا أهم وأبقى.

تحولت الصين من دولة فقيرة معزولة، ناتجها القومي لا يزيد على 113 مليار دولار، وتجارة دولية لا تزيد على 4.5 مليارات دولار، فأصبحت قوة عظمى حلت محل الاتحاد السوفيتي، وتخطى دخلها 20 تريليون دولار وأصبحت الشريك الأول لأكبر اقتصاد في العالم. يحكم الصين رئيسا منح نفسه لقب “المرشد الأعلى” للحزب الشيوعي، ويتجه بالجميع إلى نزعة قومية طاغية، ترى أن وقت الصين قد حان لتسترد موقعها التاريخي الذي حرمها منه الاستعمار منذ 100 عام، حينما انقض على أرضها ومشروعها لتحديث الدولة. انتقلت سلطة صنع القرار منذ عام 2012 من قدامى الساسة والدبلوماسيين الداعين إلى السلام على مدى نصف قرن، إلى جيل جديد من “ذئاب الحرب” يقودهم المرشد الأعلى، كل همهم الدعم الشخصي والرمزي للرئيس، وإعلاء الروح القومية لدى الصينيين، وشن حروب ضد المخالفين لاقتناعاتهم في الداخل والخارج عبر وسائل الإعلام.

حكمة كيسنجر

لم تتغير طموحات الصين من قبل، فالزعيم دينغ كان يسعى إلى الحفاظ على وحدة الدولة باحتواء التوترات على طول الحدود مع 14 دولة مجاورة، والأقليات ونزاعات في التبت وشينجيانغ، ومواجهة السخط الاجتماعي مع تكرار المجاعات. الآن يستكمل شي المسيرة مع امتلاكه القدرة العسكرية والاقتصادية لتنفيذ ذلك كله وأكثر، بتعهده بإعادة تايوان إلى الوطن خلال سنوات.

وجد شي في بوتين حليفا استبداديا مثله يجعله أقوى في مواجهة الغرب، فشكل معه صداقة كان يخشاها الرئيس نيكسون قبل رحلته إلى بكين، وتخوف منها وزير خارجيته هينري كيسنجر “المعمّر” حينما قال بعد الزيارة: “عندما لا يحتاج إلينا هؤلاء الناس بعد الآن، سيكون من الصعب جدا التعامل معهم”.

لم يأت الدعم الصيني لروسيا في غزو أوكرانيا من فراغ، بل لأنها تريد أن تقف وراء روسيا في مهاجمة هدف بالنسبة لها ليس ذا قيمة عالية، معتقدة أنها لن تتحمل الثمن، فإذا ما نجح الروس في أوكرانيا فسيكون ذلك نموذجا لما ستفعله الصين في تايوان، وإن وقع العكس فستطأطئ الرأس فترة إلى أن تمر الريح، ثم تبدأ مواجهة أخرى مع الغرب حين يأتي زمنها المناسب.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان