الدراما التاريخية والإعلام.. هل يكتبان التاريخ؟

قادتني الظروف منتصف عام 1995 إلى المشاركة في الفيلم الكندي المصري المشترك (البحث عن توت عنخ آمون) عندما جاءني مسؤول في المركز الثقافي الكندي بالقاهرة يطلبني بصفتي مخرجًا مصريًا للفيلم.
في البداية وقبل أن يُسلّمني أوراق الفيلم تصورته فيلمًا تاريخيًا دراميًا مثل كل الأفلام التاريخية التي صُوّرت في مصر قديمًا أو تُصوّر في المغرب العربي وسوريا ولبنان وأحيانًا تونس في السنوات الماضية.
حينما تحدثت مع المخرج الكندي اكتشفت أنه يريد أن يحاكي ما حدث، وهو ما يُسمّى عند السينمائيين إعادة تمثيل الواقع، والشخصيات كما هي لا توجد شخصية غير حقيقية، وكان المخرج حريصًا في طلبات خاصة بالممثلين المشاركين، وأرسل صور أبطال الأحداث للبحث عن ممثلين قريبي الشبه من الأشخاص الحقيقيين (أو نسخة طبق الأصل).
كانت تجربة فريدة في إعادة الواقع الذي حدث معتمدًا على مذكرات هوارد كارتر مكتشف مقبرة توت عنخ آمون، وبعض الكتب التي سجّلت هذه الأحداث، ورغم هذه المصادر وكذلك ما اجتهدنا من أجله على أن تكون الشخصيات والأماكن والديكورات هي بالمثل ما حدث، فإن السؤال الذي ظل يطاردني هو: هل نحن سجّلنا التاريخ فعلًا؟ هل تلك حقيقة ما حدث؟
الناصر صلاح الدين
يُعد (الناصر صلاح الدين) واحدًا من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية، ولا يرجع هذا إلى كون يوسف شاهين أحد أهم كبار مخرجي السينما المصرية وأكثرهم إبداعًا وفنًا -مهما اختلفنا معه في رؤاه- ولا كون منتجة الفيلم آسيا داغر واحدة من أهم منتجي السينما، والتي قدّمت مع مؤسسة السينما في مصر الإمكانيات كلها للمخرج ليقدّم فيلمًا مبهرًا، ولا كون الفيلم أيضًا شارك فيه معظم ممثلي مصر الكبار، وشارك فيه أربعة من كبار كتّاب السيناريو في مصر.
لكني أعتقد أيضًا أن موضوع الفيلم وتناوله شخصية الناصر صلاح الدين واستعادة فلسطين والقدس من الحملات الصليبية كان عاملًا مهمًا للتأثير الوجداني في الشعوب العربية والمصريين خاصة، كما أن براعة التناول كانت عاملًا مهمًا، وخاصة الحوار في الفيلم الذي صار أيقونة، بل محفوظًا لدى أجيال متعددة.
رغم هذا كله، فلا يزال هناك من ينتقد تناول الفيلم لشخصية البطل صلاح الدين الأيوبي، ولهذه الأحداث وما جرى فيها، ويتحدثون عن رؤية شاهين وكتّاب السيناريو في الفيلم، وأن الفيلم ليس ما تم في الواقع.
بوابة الحلواني
في مسلسله الشهير (بوابة الحلواني) استطاع الكاتب الكبير محفوظ عبد الرحمن أن يقدّم سيرة مغايرة لما هو معروف عن الخديوي إسماعيل، وقدّم المخرج الكبير إبراهيم الصحن مسلسلًا تليفزيونيًا مبدعًا من خلال عناصر العمل الدرامي. المسلسل استمر لخمسة أجزاء درامية كان موعده تجمعًا لكل المصريين والعرب.
رغم ما عُرف عن محفوظ من دقة بحثه التاريخي، وما كان يبذله من أجل كتابة أقرب للتاريخ والواقع، فإنه تعرّض للانتقاد سواء من محبّي المرحلة التاريخية التي قدّمها أو من منتقديها، وهو ما تعرّض له عبد الرحمن في فيلمه (ناصر 56) مع المخرج محمد فاضل، الذي قدّم فيه ساعات وأيام تأميم قناة السويس، عندما قام الرئيس جمال عبد الناصر باتخاذ قرار التأميم.
ورغم أن الفيلم يُعد وثيقة تاريخية قدّمت أسرة عبد الناصر والمؤسسات كلها الدعم لتقديمها، فإن السؤال لا يزال مطروحًا: هل قدّم محفوظ عبد الرحمن في الحالتين وفي مسلسله كذلك عن أم كلثوم التاريخ كما حدث؟ وهو السؤال الذي يمكن أن نسأله في فيلمَي مصطفى العقاد (الرسالة) و(عمر المختار) أو في أفلام أخرى مثل (الشيماء) (هجرة الرسول) (وا إسلاماه)، أو الأفلام التي قُدّمت عن حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 مثل (الرصاصة لا تزال في جيبي) (الوفاء العظيم) (أغنية على الممر) وغيرها.
الطريق إلى إيلات
كان فيلم (الطريق إلى إيلات) الذي كتبه فايز غالي وأخرجته المخرجة أنعام محمد علي من أكثر الأفلام التي حاول فيها المنتج (قطاع الإنتاج في اتحاد الإذاعة والتلفزيون) أن يستعين بالوثائق التاريخية كلها، والشخصيات التي شاركت في ضرب ميناء إيلات لتقديم صورة مماثلة لما حدث في العملية العسكرية، وقامت المخرجة -المعروفة بدقتها الشديدة- بجهد كبير في تقديم صورة أقرب ما تكون لحقيقة الحدث، ويظل السؤال مطروحًا علينا: هل قدّم صنّاع الفيلم التاريخ؟
هل الإعلام يقدّم التاريخ أيضًا؟
الدراما التاريخية لا تحاكي التاريخ، حتى أفلام إعادة تمثيل الواقع أو الأفلام الوثائقية لا تحاكي التاريخ ولا تقدّمه كما حدث، فلكل حدث صوره وجوانبه المتعددة، لا يستطيع أي مؤلف درامي أو فيلم سينمائي أن يقدّم أحداثه كلها، بل يقدّم ما تراه عينه أو ما يتوافر له من معلومات.
حتى كتّاب التاريخ يقدّمون إما وثائق معيّنة حصلوا عليها، أو جوانب عايشوا جزءًا منها، فنحن نرى رؤية المبدع للتاريخ، وما استطاع مؤرخ أن يحصل عليه من وثائق وتحليله لها وتفسيره، لذا تبقى في التاريخ دائمًا جوانب لا نراها، وقد تكون متناقضة مع بعضها الآخر.
لكننا بحاجة إلى هذه القراءات للتاريخ، بحاجة إلى تأملها في حدود جغرافيتها وتاريخها ووثائقها ونتائجها، وقد صار الإعلام في السنوات الأخيرة وثيقة ومصدرًا من مصادر تسجيل التاريخ، وصرنا من زمن ظهور البث المباشر (الجزيرة) نرى التاريخ على الهواء مباشرة، ولكن هل ما يُنقل مباشرة هو التاريخ أم ما استطعنا أن نحصل عليه من مصادره، قد تكون صادقة أو غير ذلك؟ (نتذكر بيانات المذيع أحمد سعيد إبان حرب يونيو/تموز 1967، كانت بيانات مصدر ما شك لحظة وهو ينقلها للمستمعين عبر إذاعة صوت العرب في صدقها)، وللحظة تخيّلنا أنها التاريخ، لم نفق إلا مع توقفها وتحوّلها إلى بيانات دعم معنوي.
ما نراه على الشاشات هو عين كاميرا ومبدع، قد يكون نتيجة أو جزءًا من حالة، ولكني أعتقد أنه لا يمكن أن يكون التاريخ، فالتأريخ يحتاج إلى الوثائق كلها والكاميرات كلها والقرارات كلها، وأيضًا يظل ناقصًا لأنه لا يعرف ما وراء القرارات، لكن المؤكد أننا نرى جزءًا من نتائج التاريخ وبعض أحداثه على الشاشات التي صارت وثيقة.