هل سيكتفي الغرب بالعقوبات الاقتصادية على روسيا؟
تثار أسئلة كثيرة حول هدف فلاديمير بوتين من غزو أوكرانيا، في الوقت الذي يتحدث فيه الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية عن عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا، والرئيس الروسي، وشخصيات مهمة وشركات روسية، كما علّقت ألمانيا مشروع (نورد ستريم 2) وهو خط أنابيب غاز كبير من روسيا.
فبالنظر إلى عقلية بوتين العسكرية ذات الخلفية المخابراتية، نجد أنه يرى أن الهجوم على أوكرانيا وغزوها، فرصة مهمة لمنع وبشكل نهائي أن تصبح أوكرانيا عضوًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، خصوصًا أن دول الحلف وفي مقدمتها الولايات المتحدة قد أكدت أن ردود الفعل الوحيدة التي سيقدِمون عليها هي فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وأنه لا نية لهذه الدول للرد عسكريًا، وهذا ما دفع بوتين إلى الاعتقاد بأن هذه هي اللحظة الذهبية للتدخل، وإلا سيكون قد أضاع الفرصة.
وفي السياق ذاته، يجب النظر في إمكانية قيام بوتين بخطأ في التقدير، بشكل يجعل من العملية العسكرية وإن انتهت بالانتصار على الجيش الأوكراني، أنها قد تتسبب في نتائج عكسية للأهداف الاستراتيجية لروسيا.
فالمتتبع للشعور القومي البريطاني، على سبيل المثال، يجد أنه بات معاديًا وبشكل عنيف لروسيا، وأيضًا أصبح “الناتو” في أفضل حالاته منذ مدة طويلة، كما أن التضامن بين الولايات المتحدة والأوربيين بات قويًا، ولم يسبق أن كانت الوصاية الأمريكية على الأوربية مقبولة كما هي اليوم.
والظاهر أيضًا في كل تصريحات القيادات الأوربية بجانب الولايات المتحدة الأمريكية أنهم لن يتدخلوا عسكريًا في أوكرانيا، وسيكون التركيز فقط على العقوبات الاقتصادية، ولعل هذا الذي شجّع بوتين على خوض الحرب، والسير في طريقه. وأظن أنه كان من الأجدر عدم القول مسبقًا إن “الناتو” لن يتدخل عسكريًا، حتى لو هاجمت روسيا أوكرانيا، وكان يجب ترك هامش للشك في ممارسات موسكو.
والذي يعلنه بوتين من حين لآخر أنه يريد أوكرانيا منزوعة السلاح، وخصوصًا السلاح النووي، وبتعبير آخر “نزعها من النازيين”. فهل سيحقق غرضه وأهدافه في ذلك؟ المتتبع للأحداث وسرعتها، والقصف الجوي والمدفعي والعمليات البرية، التي تهدف إلى تدمير وتفكيك البنية التحتية العسكرية الأوكرانية، يرى أنه في هذه الحالة ربما يقتنع بوتين بأنه نزع قوة الجيش الأوكراني وأجهز عليه، ولم تعد له أي إمكانية للمقاومة أو إعادة تنظيم نفسه، في هذه الأثناء فقط ربما يصرح بوتين بنهاية العمليات العسكرية.
ولتحقيق هذا الهدف، فإنه يتعيّن على روسيا أن تبقى حاضرة عسكريًا في أوكرانيا لمدة طويلة، لأنه بطبيعة الحال سوف تتشكل مقاومة شعبية ومسلحة ضدها، وفي حال وضعت موسكو حكومة موالية فإنها ستنسحب في وقت قريب، وبالتالي فإذا كان بوتين يهدف أساسًا لتدمير الجيش الأوكراني، فإن الحرب ستنتهي بسرعة، لكن إن أراد احتلال أوكرانيا فإن الأمر سيتطلب مدة طويلة، ستتكبد فيها روسيا خسائر فادحة.
هل سيكتفي الغرب بالعقوبات الاقتصادية على موسكو؟
للمرة الأولى، أعلن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، يوم السبت 26 من فبراير/شباط، تفعيل قوة الرد السريع، كإجراء دفاعي ردًا على الهجوم الروسي على أوكرانيا، وقام القائد الأعلى للناتو الجنرال تود ولترز بتفعيل القوة المتعددة الجنسيات المكونة من قوات برية وجوية وبحرية وقوات العمليات الخاصة، التي يمكن أن تنتشر بسرعة.
ولا يعني تفعيل قوات الرد أن أي قوات أمريكية أو تابعة للناتو ستدخل أوكرانيا، التي ليست عضوًا بالحلف، لكن قوة الرد في حالة تأهب، وليس من الواضح عدد القوات التي ستكون في قوة الرد.
وتم الإعلان عن قرار تفعيل قوة الرد بعد اتصال هاتفي مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، وقادة الناتو صباح الجمعة 25 من فبراير، وقال بايدن، إن الناتو سيبقى موحدًا لمواجهة تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للسلم والأمن الدوليين.
وتم التلويح أيضًا -على مستوى التبادل التجاري والتصدير بين موسكو والعالم- باستبعاد روسيا من نظام المدفوعات الدولية (سويفت). ومن شأن هذه الخطوة أن تُلحق الضرر بالتجارة الروسية، وتجعل من الصعب على شركاتها القيام بأعمالها.
وسويفت هو نظام مراسلة آمن تستخدمه البنوك لإجراء مدفوعات سريعة عبر الحدود، وهو الآلية الرئيسية لتمويل التجارة الدولية. وكلمة سويفت هي اختصار “جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك”.
وقد أنشئ هذا النظام عام 1973، ومركز هذه الجمعية بلجيكا، ويربط نظام سويفت 11 ألف بنك ومؤسسة في أكثر من 200 دولة، وتُعد روسيا ثاني أكبر بلد ضمن “سويفت” من حيث عدد المستخدمين بعد الولايات المتحدة، مع نحو 300 مؤسسة تشكّل أكثر من نصف المؤسسات المالية في البلاد.
ويصل حجم التعاملات المالية المرتبطة بروسيا عبر “سويفت” إلى مئات مليارات الدولارات سنويًا، وستفقد الشركات الروسية الدخول إلى المعاملات السلسة واللحظية التي يوفرها نظام سويفت، وستتأثر المدفوعات الخاصة بمنتجات روسيا المهمة في قطاعي الطاقة والزراعة سلبًا بدرجة كبيرة.
ومن المتوقع -حال حظر روسيا من هذا النظام- أن تضطر البنوك الروسية إلى التعامل مباشرة مع بعضها بعضا، مما يضيف التأخير والتكاليف الإضافية، ويؤدي في النهاية إلى قطع الإيرادات عن الحكومة الروسية.
وسيمثل حرمان روسيا من هذا النظام تصعيدًا إضافيًا للعقوبات المنسقة التي فرضتها القوى الغربية على روسيا، والتي شملت عقوبات نادرة تستهدف بصفة شخصية الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف.
حرب الغاز وتأثيرها على الغرب
تُعد روسيا من أغنى الدول في احتياطات الغاز الطبيعي، كما أنها تأتي في المرتبة الأولى بقائمة الدول المصدرة للغاز بنسبة 24% من التجارة العالمية، وتعتمد أوربا على الغاز الطبيعي الروسي في حدود 40% للمساعدة في تدفئة ملايين المنازل وتوليد الكهرباء ومصانع الطاقة، ويأتي معظمه عبر خطوط أنابيب، منها: (يامال-أوربا) الذي يعبر بيلاروسيا وبولندا إلى ألمانيا، و(نورد ستريم 1) الذي يذهب مباشرة إلى ألمانيا مرورًا بأوكرانيا.
ومن الملاحظ أن أسعار الغاز ارتفعت في القارة الأوربية، حيث اصطدم نقص العرض مع ارتفاع الطلب في اقتصادات تنهض من تداعيات جائحة كوفيد-19، مع واردات أقل من المتوقع من روسيا.
وإذا توقف تدفق الغاز، إما كضرر جانبي من الحرب، أو كقرار تكتيك تفاوضي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن ذلك سيؤدي لا محالة إلى ارتفاع الأسعار في السوق العالمية المتغيرة باستمرار، وقد يضطر العديد من الشركات الكبرى إلى الإغلاق مؤقتًا. وإذا استمر عدم التدفق، ستشعر الأسر التي تواجه بالفعل فواتير باهظة بشتاء مؤلم.
وهذه ليست الحادثة الأولى في التأثير على أسعار الغاز بالعالم، فقد سبقها انقطاعات عديدة على مدى 15 عامًا مضت، حيث وقعت خلافات عدة بين روسيا وأوكرانيا بشأن الغاز تتعلق في الغالب بالأسعار المدفوعة.
ففي عام 2006، قطعت شركة (غازبروم) الإمدادات عن أوكرانيا يومًا واحدًا. وفي شتاء 2008/2009 تكرر انقطاع الإمدادات الروسية في أنحاء أوربا. وفي 2014، قطعت روسيا الإمدادات عن كييف بعد ضم شبه جزيرة القرم، وتوقفت أوكرانيا عن شراء الغاز الروسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
وفي النهاية، أتوقع ألا تؤثر كل هذه الضغوط على موسكو بشكل كبير، لأنه يوجد سوابق لذلك، وربما تأتي هذه العقوبات بالضرر على الدول الأوربية من جانب آخر، مع تهديد بوتين باستخدام سلاح الطاقة. ولدى موسكو، أيضًا، تصور وضرورة لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتطوير قطاعات الصناعة والزراعة أكثر فأكثر، حيث تملك البلاد احتياطات مهولة من الذهب والنفط والمعادن، لكن لا يتم استغلالها وتوظيفها بطريقة صحيحة، بما يؤهلها إلى التربع على هرم الدول الصناعية والثرية، لأن موسكو حبست نفسها في مجالي صناعات السلاح والطاقة، مع إهمال بقية القطاعات الإنتاجية الحيوية الأخرى.