ما خسرته روسيا لن يُعوّض!

هل يؤكّد بوتين نبوءة الناتو؟
قبل هذا السؤال ثمة سؤال آخر يطرحه الوضع الراهن، وهو: هل كل ما يفعله الناتو سيتحقق في النهاية، وبالتالي تؤكّد النبوءات نفسها؟
من المعلوم أن الشرارة الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا، والتي كانت متوقعة منذ شهور أو حتى سنوات، جاءت من جهة غير متوقعة، وهي قرار الاعتراف بجمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوهانسك الشعبية، اللتين أعلنتا من جانب واحد استقلالهما عن أوكرانيا، واتضح أن الدبلوماسية كانت مجرد لعبة وخداع من قبل بوتين. لكن غير المتوقع سيقف عند حدود الخطوة الأولى، فما سيأتي لاحقًا سيسير وفقًا لما هو متوقع.
هاجمت روسيا ليس فقط من دونيتسك ولوهانسك، بل من جميع أنحاء أوكرانيا، حتى وصلت إلى مشارف كييف، وهذه السرعة إنما تعطي فكرة عن مكان التوقف المتوقع. بالطبع، ليس من المنطقي طرح فرضية أن روسيا كانت مضطرة لغزو دولة مستقلة بسبب قلقها ومخاوفها بشأن أمنها، فالأمر لا يتعلق فقط بالتهديد المتصور من أسلحة الناتو المنتشرة في ذلك البلد أو دول أوربا الشرقية الأخرى. إنهم لا يترددون في التصريح بأن أوكرانيا تعد ملكًا لهم وحقًا.
إن الأطروحات التاريخية والثقافية، التي قدمها بوتين تبريرًا لقراره يوم الخميس، تظهر أن العدوان والهجوم المحتمل لروسيا حتى الآن ليس مجرد وهم، فقد استمر حلف الناتو، الذي تأسس لمواجهة حلف وارسو، في كون روسيا تشكّل تهديدًا محتملًا حتى بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي. نتيجة لهذا التهديد المتصوّر، توسّع الناتو ليطوّق روسيا تقريبًا بعضوية رومانيا وبولندا ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا.
كان هذا التوسع في حد ذاته بمثابة تذكير دائم بأنه سيشكل تهديدًا لروسيا، ربما غدًا، إن لم يكن اليوم، وأنه يعود في النهاية إلى دورها التاريخي. إن وجهة النظر هذه ومعها سياسة الناتو كفيلة بأن تحرّك روسيا للعودة إلى دورها التاريخي حتى لو لم تكن روسيا تفكّر في ذلك.
لكن روسيا التي يُنظر إليها على أنها تهديد ترى أيضًا في الإجراءات المتخذة ضدها تهديدًا لها، ودائمًا تشير إلى أن هذا التهديد المحيط بها سيصل إلى نقطة لا يمكن تحملها إذا انضمت أوكرانيا إلى الناتو. كان مشروع نورد ستريم 2، الذي تم إنشاؤه لنقل الغاز إلى أوروبا عبر ألمانيا مؤثرًا في مقاربة التهديد المتصوّر للولايات المتحدة فيما يتعلق بروسيا. تعتقد الولايات المتحدة أن هذا المشروع سيعزز مكانة روسيا ويجعلها قوية إلى الحد الذي لا تقدر أوربا على مواجهته.
زعزعة الاستقرار
ومن بين نقاط القوة التي اعتمد عليها بوتين عند الشروع في مثل هذه الخطوة “الجنونية” في أوكرانيا هي أن أيدي كل أوروبا، وخاصة ألمانيا، مقيّدة. هذا هو أحد أهم الأسباب لعدم وجود أي رد فعل من أوروبا سوى الإدانة، على الرغم من كل دعمهم اللفظي لأوكرانيا منذ البداية. ومما لا شك فيه أن هناك سببًا مهمًا آخر يتمثل في ضعف حلف الناتو، وبنيّته غير الموثوقة، والتناقض بين خطابه وأفعاله، والخلافات الموجودة بين أعضائه. لا يمكن لحلف الناتو أن يذهب إلى أبعد من صنع نبوءات بخطابه وسياساته. إنه يصنع نوعًا من النبوءة التي تتحقق من تلقاء نفسها ويجلس ويبكي على ضحايا هذه النبوءة. يمكننا أن نفهم أن بوتين قد قرأ هذا الضعف في الناتو وأوروبا جيدًا. ولكن ذلك لا يعني أنه يقرأ أيضًا عواقب سياسته جيدًا.
بالعملية التي بدأها في أوكرانيا، ربما مهّد بوتين الطريق لزعزعة الاستقرار على المدى البعيد في العالم. وأيًا يكن الوضع الجديد، لا يمكن أن تصير روسيا، التي أظهرت عدم موثوقيتها في جميع أنحاء العالم، ملك العالم الجديد الذي تفكّر في بنائه. ربما يكون بوتين قد قيّد أيدي أوروبا وحلف شمال الأطلسي في مواجهة هذه السياسات العدوانية، لكن المكاسب التي سيحققها لن تجعله صاحب الكلمة والقرار. ورغم أنه جعل أوروبا تعتمد عليه في الحصول على الغاز الطبيعي، فهو يجب أن يبيع الغاز الطبيعي الذي لديه، وهذا هو أهم مصدر دخل له. وقد يتم البحث عن بدائل غير هذا البائع الذي يستخدم هذه البطاقة الرابحة بشكل فظ وغليظ. إضافة إلى ذلك، فإن هذه المغامرة قد تجعله غير آمن ومعزول في العالم، مما يعرّضه لانغلاق كبير جديد بعد التجربة السوفيتية. كما أن نهاية التجربة السوفيتية كانت مخيبة للآمال، فلا توجد دلائل على أن هذه المغامرة الجديدة ستقود روسيا إلى مكان أفضل.
قد يفكّر في السوق الصيني بديلًا للسوق الأوربي، لا سيما بعد توقيعه صفقة غاز طبيعي كبيرة مع الصين هذا الشهر، لكن ذلك لن يُعوّض ما خسرته روسيا بالشروع في مثل هذه المغامرة.
في النهاية، أظهرت روسيا أسنانها وقوتها، وقد كشف استعراض هذه القوة عن بؤس خصومها، لكن استعراض هذه القوة وإثباتها، يلحق أيضًا ضررًا أكبر بروسيا نفسها، وعلينا أن نرى هذا أيضًا.