المشخصاتية.. والمشخصون الكبار

محمود المليجي في فيلم الأرض

يظن البعض أنهم حين يطلقون على الممثل أو المؤدي لقب (مشخصاتي) فانهم يهينونه، وهم لا يدرون أنهم يعيدون الكلام إلى نصابه الحقيقي، فالأصل في الكلمة هي التشخيص، فالمشخصاتي (الممثل) تكمن عبقريته في تشخيص ما يؤديه من دور، وقد نطلق عليه لقب المؤدي. أما الكلمة التي تطلق على من يؤدي دوره كما هو مرسوم بدون إضافات أو اجتهاد أو موهبة كبيرة فنقول ببساطة (بيمثّل) أو ممثل، وقد صارت خلال الأونة الأخيرة -كما في معظم المهن- مهنة من لا مهنة له (التمثيل)، وفي العادات المصرية نقول (ده بيمثّل علينا) أي إنه غير صادق في ما يقول، ونقول (تحس إنه بيمثّل)، أي فشل في إقناعنا بما يقول.

إذَن، فالتشخيص هو أعلى درجات أداء المشخصاتي، ونقول “عبقري في تشخيصه أو عبقرية في التشخيص”، وأحيانا نقول معجون بعجينة التشخيص أو التمثيل، وهناك أسماء كثيرة قديما وحديثا في تاريخ الأداء الدرامي حازت اللقب الأعلى (المشخصاتي)، سنتناول بعضا منهم، أما الدرجة الأقل فهي (المؤدي) وفيها درجات، الأولى فيها المؤدي، والأدنى الممثل، وتلك آخر درجة في درجات التشخيص. إذَن، فالمشخصاتي كلمة تزيد من قيمة من يمتهن مهنة التشخيص، ولا يدري قائلها أنه يرفع من قيمة من يظن أنه يهينه أو يقلل من شأنه.

منذ بداية ظهور مهنة التمثيل في مصر والعالم العربي أطلِق على الممثل لقب (مشخصاتي)، وعلى العملية التمثيلية (التشخيص)، ونتذكر في أفلام الثلاثينيات والأربعينيات الكلمة تتردد كثيرا حين يقول أحد الأبطال على الممثل (المشخصاتي) أو يقول (بيشخصوا) مسرحية لفلان أو فلان من مؤلفي المسرح، وكذلك تظهر في إعلانات الأعمال المسرحية الأولى في مصر والشام أصل ظهور التمثيل في الوطن العربي، فكان يُكتب في الإعلان (يقوم بالتشخيص فلان وفلانة).

رجل الشر

عرف تاريخ الدراما المصرية والعربية مشخصاتية كبارا يتقمصون الشخصية التي يؤدونها، حتى إنك لا يمكنك الفصل بين الشخصية التي يؤديها والشخص نفسه، وأحيانا تصدّق الجماهير الممثل لدرجة الكراهية أو المحبة من دور يشخصه على الشاشة (أتعمد تكرار الكلمة حتى نعيد لها قيمتها). ولعلنا جميعا نتذكر إحساس الجمهور تجاه ممثل كبير مثل محمود المليجي الذي كان يُعتقد أنه رجل الشر الحقيقي، ولم تكن الغالبية تعرف أن هذا الرجل رقيق المشاعر وعطوف جدا على أهل بيته وعائلته، وقد انتقل المليجي من أداء أدوار الشر إلى تشخيص الأدوار الطيبة والخيرة في أعمال أخرى، فكانت مشاعر الجماهير في التعاطف معه تصل إلى حد البكاء من قدرته على تشخيص الشخصية التي يؤديها، ولا يمكن أن ننسى له دور مثل “محمد أبو سويلم” في فيلم (الأرض) أو المحامي في (إسكندرية ليه). كذلك الفنان زكي رستم، كان له مثل محمود المليجي ما بين عبقرية الأداء في (الفتوة) و(رصيف نمرة 5) كأدوار شر، وبين (أبو البنات) و(ليلي بنت الأغنياء) وغيرها مما قدّم من عبقرية التمثيل.

واقع الأمر أن بدايات الأداء الدرامي -سواء في المسرح أو السينما أو التليفزيون- شهدت أكبر عدد من المشخصاتية الحقيقيين، أمثال يوسف وهبي وأمينة رزق وزكي طليمات ودولت أبيض ونجيب الريحاني وعلي الكسار، وغيرهم من هذا الجيل الكبير المؤسس لفن الأداء التمثيلي في مصر والعالم العربي. ولا ننسي أن مصر استقبلت في ذلك الوقت وحتى بداية الستينيات معظم المواهب العربية، خاصة من لبنان وسوريا وفلسطين، وعادت هذه الظاهرة في السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين بعد أن اختفت منذ السبعينيات وخلال عشرين عاما أو أكثر.

في جيل الخمسينيات والستينيات ظهر عباقرة تمثيل في مصر، فيمكن أن نطلق ببساطة لقب المشخصاتي على صلاح منصور مثلا، ولك أن تشاهد له فيلم (الزوجة الثانية) أو (البوسطجي). وشكري سرحان ما بين (ابن النيل) أول بطولة له و(شباب امرأة) و(إحنا التلامذة) و(البوسطجي) و(شيء في صدري)، فنحن أمام مشخصاتي من الدرجة الأولى. أما محمود مرسي فكان “الأَلفة” لهؤلاء جميعا في قدرته على التقمص والتشخيص، فلا تستطيع أن تجد خطأ واحدا في أداء أولئك يفصلك عن الشخصية التي يؤديها كل منهم. وفي النساء، هناك سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وليلي فوزي ونادية لطفي وشادية، هل يمكن أن تنسى لشادية مثلا (اللص والكلاب) أو(ميرامار) أو (شيء من الخوف)، نتوقف لنرى كيف تقمصت هذه الأدوار الفتاة التي كانت دلوعة السينما المصرية كما أطلِق عليها، الأسماء لا تنتهي في مسيرة للدراما عمرها يصل إلى نحو 150 عاما أو أكثر.

غول التمثيل

أجيال تلت أجيالا في هذا العمر الطويل للأداء الدرامي، وفي الربع الأخير من القرن الماضي ظهر لنا غول التمثيل أو المشخصاتي الأكبر في هذا العصر (أحمد زكي)، هذا الممثل الذي لم يقم مرة واحدة بخذلان جمهوره أو مخرجه أو زملائه  بما يقدمه، لم يُضبط أحمد زكي مرة واحدة خارج الشخصية التي يؤديها، حتى عندما قدّم شخصيات تاريخية مثل جمال عبد الناصر وأنور السادات وآخر أفلامه (حليم). ولا ننسى في تلك الفترة يحيى الفخراني أو صلاح السعدني، فكل واحد من أولئك “مشخصاتي” عظيم، مع نور الشريف ومحمود عبد العزيز، وومضات في تاريخ عادل إمام، وخلف هؤلاء كبار في التشخيص من الصفوف التالية (لكنه في النهاية مقال لا يسع تاريخ الأداء الدرامي في مصر).

ملاحظتان في النهاية:

• المشخصاتي يؤدي دورا مكتوبا من مؤلف ويديره مخرج مهمته أداء الشخصية ببراعة وإجادة، وكل هؤلاء هم أعضاء في فريق الإبداع، وليسوا قادة ثورة ولا سياسيين، قد يمارسون دورا في التنوير، وقد يكتفون بإيصال المتعة إلى الجمهور، فلا نحمّل المبدعين فوق طاقتهم فهم ليسوا بديلا عن النخبة والطليعة الثورية وجماهير الثورة، قد يشاركون لأنهم جزء من الجماهير لكنهم لم ولن يصنعوا إلا وعيا.. ربما!

• تحية إلى كل المشخصاتية في مصر وعالمنا العربي والعالم كله الذين يمتعوننا بأدائهم الشخصيات التي يشخصونها، وتحية إلى محمد صبحي على ما قدمه في تاريخ المسرح المصري من أعمال ستظل في وجدان كل من يقدّر قيمة فن التشخيص، مثل (وجهة نظر) و(بالعربي الفصيح) و(ماما أمريكا) و(الهمجي) ومسلسله التاريخي المهم (فارس بلا جواد).

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان