صوت الوطن.. السيّدة أم كلثوم

عند الخامسة عصرًا كانت الحياة تتوقف لدى كل عشاق الغناء الأصيل في قرانا البعيدة بقلب صعيد مصر، فهذا هو موعدنا عبر أثير الإذاعة المصرية لنلتقي بسيدة الغناء العربي. كان الزمن بداية سبعينيات القرن الماضي ومعظم القرى لم تصل إليها الكهرباء، فكان عدد أجهزة الراديو قليلًا وفي بيوت المتيسرين من أبناء القرى وبعض المحال (نسمّيها دكان البقالة) وبجوارها يجلس كبار القرية مع دقات الخامسة في انتظار الست وحفلاتها التي يقدمها الإذاعي الكبير جلال معوض، ومع صوته تستطيع أن تلحظ الصمت الرهيب، كما نشاهده في حفلاتها التلفزيونية التي تذاع حتى الآن، وعندما اكتمل الوعي اكتشفت أن حالة قريتي وقري مصر كانت حالة متكررة في كل أرجاء الوطن العربي، فالآن تخرج علينا أم كلثوم سيدة الغناء العربي.
من قلب الوطن خرجت
كانت أم كلثوم حالة استثنائية في الأمة العربية، هذه الفتاة البسيطة ابنة الريف والقرى والموالد حافظة القرآن، صارت ظاهرة فريدة في تاريخ الغناء بمصر والعالم العربي، تُستقبل في كل دول العالم استقبال الرؤساء والملوك، كوّنت مؤسستها الفنية بذاتها واجتهادها، لم تفرط يومًا ولم تتنازل، حفظت القرآن وكانت تقرأه في قريتها، حفظت التواشيح وأنشدتها في الموالد والمناسبات وكانت ترتدي الجلباب والعقال، حتى التقطها الشيخ أبو العلا محمد فذهب بها إلى القاهرة لتتفتح أمام الفتاة الريفية آفاق العالم، ولكنها ظلت حتى رحيلها ابنة القرية المصرية المنتمية إلى جذورها، لا تغيب عنها أبدًا، وكما كان الانتماء للقرية كان الانتماء للوطن العربي ولمصر.
مِصرُ التي في خاطري وفي فمي
أحبُّها من كلِّ روحي ودمي
يا ليتَ كلَّ مؤمنٍ بعزِّها
يحبُّها حبّي لها
بَني الحِمى والوطنِ
مَن منكمُ يحبُّها مِثلي أنا؟
أم كلثوم النموذج
لم تتوقف أم كلثوم عند كونها صوتًا نادر الوجود لم يتكرر (لاحظ المسافة بينها وبين الميكروفون أمامها في الغناء) لم تكتفِ بإعجاب كل المصريين والعرب لها ولا استقبالها في دول أوربية كملكة الغناء، لكنها منذ اللحظة الأولى لها في القاهرة وعالم الغناء كانت حريصة على التعلم والإنصات لكل من يعرف أكثر منها، طورت نفسها على الدوام، ولعلنا لا ننسى موقفها مع عبقرية التلحين المصرية بليغ حمدي (واد يا بليغ) هكذا كانت تناديه وهي في قمتها وأمامها ملحن صغير السن يبدأ مشوار حياته بنغم ولحن جديد، عندما استمعت له أقرت بفنه وقدّمت معه 11 أغنية منها (الحب كله) (سيرة الحب) (ألف ليلة وليلة) (أنساك) (ظلمنا الحب) (إنا فدائيون) (حكم علينا الهوى) و(فات المعاد).
فات المعاد
وبقينا بعاد
والنار بقت
دخان ورماد
فات المعاد
وكان بليغ يفاجأ بأم كلثوم وهي تجلس على الأرض مستمتعة بألحانه، كان بليغ حمدي محطة جديدة في مرحلة السيدة التي تربعت على عرش الغناء العربي، وبدأت مشوار حياتها مع الشيخ أبو العلا محمد ثم انتقلت إلى محمد القصبجي وبعده رياض السنباطي وأحمد رامي وكل الشعراء الكبار في مصر والملحنين الكبار أيضًا، لم تجد أم كلثوم غضاضة في أن تكون تلميذة لكل الذين يعرفون أكثر، تتعلم وتنتقل من مرحلة إلى أخرى، وكانت لأم كلثوم الفلاحة القادمة من قلب الدلتا مكانة لدى كل المصريين في بدايتها من الملك حتى كبار الساسة، وبعد ذلك كانت الأقرب لجمال عبد الناصر، وكانت صوت الوطن على مدى عمرها.
يا صوت بلدنا يا صوت ولادنا
يا أعلى منبر في جبين بلادنا
وللمعاني وللأماني وللعروبة ولاتحادنا
اعلى ودوّي يا صوت بلدنا
الشعب والأنغام
والعلم والإعلام
بيرفعوا لك وسام
بتحية الملايين
تحية طول الطريق
من عربي شقيق
وألف مليون صديق
من كل جنس ودين
كانت تلك الأغنية التي غنتها أم كلثوم للإذاعة المصرية في عيدها، وللحق فإن هذه الأغنية تنطبق تمامًا على صوت أم كلثوم التي كانت بحق صوت بلدنا طوال عمرها، وما زالت أم كلثوم صوتًا لأجيال جديدة لم تعرفها ولم تعش معها، ولا أستغرب عندما أجد ابنتي ذات الخمسة عشر عامًا تدندن بإحدى أغنياتها، ولا أدرى كيف وصلت إليها.
لم تترك أم كلثوم نوعًا غنائيًّا إلا قامت بأدائه، فقدّمت كل أنواع الأغاني الوطنية والعاطفية والدينية والإنسانية، وأغنيات الوصف الجميلة وكل أنواع الشعر من الأغنية الخفيفة (على بلد المحبوب) إلى القصائد الطويلة (الأطلال) إلى الأغنية الرومانسية الرقيقة (الحب كده) والأغنية الدينية (ولد الهدى) و(القلب يعشق كل جميل)
القلب يعشق كل جميل
وياما شفتي جمال يا عين
واللي صدق في الحب قليل
وان دام يدوم يوم والا يومين
واللي هويته اليوم
دايم وصاله دوم
لا يعاتب اللي يتوب
ولا في طبعه اللوم
واحد مفيش غيره
ملا الوجود نوره
دعاني لبّيته
لحد باب بيته
وامّا تجلى لي
بالدمع ناجيته
أم كلثوم والأغنية الوطنية
كانت أول محطة للغناء الوطني لأم كلثوم عند وفاة الزعيم المصري سعد زغلول، ثم توقفت بعد وفاته عن الغناء أربعين يومًا، وأدت أغنية من تأليف أحمد رامي ولحن محمد القصبجي في رثاء سعد زغلول. أما علاقة أم كلثوم بثورة يوليو فبدأت من عشق جمال عبد الناصر لصوت أم كلثوم، وهناك من يرصد علاقة متميزة له قبل ثورة يوليو التي أصبحت أم كلثوم صوتًا لها والأولى غناء في احتفالاتها الشهيرة بعيدها، لكن هذه العلاقة بدأت بموقف أخذه أحد الموظفين في الإذاعة المصرية بعد يوليو 1952 حينما منع هذا الموظف أغنيات أم كلثوم، سأل عبد الناصر عن أغاني أم كلثوم فقيل له إن الموظف منعها لأنها من العهد البائد، حينها قال ناصر “فلتهدموا الأهرامات فإنها من العهد البائد أيضًا”.
وعادت أم كلثوم إلى الإذاعة المصرية وبعدها لتلفزيون مصر، لتظل صوت مصر والعرب. وغنت أم كلثوم أكثر من 30 أغنية وطنية منها: (مصر التي في خاطري) (يا مصر إن الحق جاء) (مشى المجد) (ثوار لآخر مدى) (راجعين بقوة السلاح) (على باب مصر) و(طوف وشوف). ولا يمكن أن ننسى دور أم كلثوم في مصر بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 التي صدمت أم كلثوم، ولكنها الفلاحة المصرية الأصيلة التي لا تقبل الهزيمة ولا الانكسار (نموذج عايشته في نساء عظيمات كثيرات بريف مصر عنيدات في حقوقهن).
ومثل كل مصرية، لملمت السيدة أم كلثوم جراحها وقادت معركتها مع الوطن في رحلات المجهود الحربي، وما زلنا نتذكر مواقفها في رحلة فرنسا ورحلات لكل الدول العربية دعمًا للقوات المسلحة وجيشها الذي لا ينبغي أن ينكسر، كانت أم كلثوم لا تنام إلا قليلًا على مدى أيام وشهور، تذهب إلى كل مكان في العالم دعمًا لأمتها، وعندما رحل عبد الناصر كانت وفاته انكسارًا آخر لكوكب الشرق. وعاشت أم كلثوم على أمل الانتصار وعودة الأرض، وقد تحقق النصر في أكتوبر 1973، ورحلت أم كلثوم في الثالث من فبراير/شباط 1975، وكأن مصر ساعتها كانت تودع عالمًا وتاريخًا وقيمًا ومعاني اختفت في تلك السنوات، لتذهب مصر والأمة إلى تاريخ جديد وعالم جديد وقيم جديدة، بدأت بانفتاح وتدهورت الأحوال حتى وصلنا لما نعيشه من دخول الجميع تحت عباءة العدو، وما رفضته الفلاحة المصرية الأصيلة الملقبة بسيدة الغناء العربي وكوكب الشرق أم كلثوم صار الملوك والرؤساء يقبلونه!
أنساك ده كلام
أنساك يا سلام
أهو ده اللي مش ممكن أبدًا
ولا أفكّر فيه أبدًا
ده مستحيل
قلبي يميل
ويحب يوم غيرك أبدًا.