ذكرى خلع مبارك.. هل أخطأت الثورة؟

كانت القوات المسلحة تتوقع وصول البرادعي مع لفيف من الثوار إلى مبنى ماسبيرو لإعلان بيانهم الأول كحكومة مختارة من الميدان، وقد استعد الحرس الجمهوري للتعامل مع هذا السيناريو

حتى يوم 9 فبراير/شباط 2011 كان الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك وأركان نظامه يثقون بأنهم مستمرون في حكم مصر، وأنهم قادرون على تجاوز الأزمة، حتى إن مبارك اتصل برئيس قطاع الأخبار في التلفزيون عبد اللطيف المناوي لطمأنته، والاتفاق مبدئيًّا معه على إجراء حديث تلفزيوني طويل يشرح فيه ما قدمه لمصر خلال 30 عامًا هي عمر حكمه!!” (مذكرات الأيام الأخيرة لنظام مبارك ص 387)

30 عامًا حكم مبارك مصر خلالها وكان يتصور أنه ربما سيحكم ثلاثين أخرى “طالما فيه عرق ينبض كما كان يقول”، لكنه واجه الحقيقة المرة بعد يومين فقط من ذلك الاتصال، وإن شئنا الدقة فقد واجهها بعد يوم واحد حين اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 10 فبراير 2011 للمرة الأولى دون رئاسة مبارك له كما يقضي البروتوكول، وأصدر عقب الاجتماع البيان رقم (1) وهو ما يعني في العرف والسوابق العسكرية “بيان الانقلاب” الذي سيلحقه بيانات أخرى.

ليس من المبالغة القول إن إطاحة مبارك بعد هذه العقود الثلاثة في حكم مصر كان الإنجاز الأبرز لثورة 25 يناير، لكن أصواتًا تطل علينا بعد 11 عامًا من الثورة تدّعي أن الثورة أخطأت بخلع مبارك، وانه كان على الثوار الرضا بخارطة الطريق التي طرحها مبارك وتضمنت تنازلات كبيرة أهمها تعهده ونجله جمال بعدم الترشح للحكم في الانتخابات الرئاسية المقررة بعد سبعة أشهر فقط، مع إجراء تعديلات دستورية عاجلة تمهد لتداول سلمي للسلطة قبل موعد الانتخابات، بجانب التنازلات العملية الأخرى التي تمت فعلًا ومنها إقالة وزير الداخلية واعتقاله مع عدد آخر من الشخصيات التي أغضبت المصريين، بل وتغيير الحكومة بكاملها، والتعهد بتصحيح النتائج المزيفة لمجلس الشعب.

كلام فارغ

وتدّعي هذه الأصوات أن الثوار لو قبلوا تلك الخارطة لجنّبوا مصر ما وصلت إليه حاليًّا، والحقيقة أنها أصوات تنطلق من حالة إحباط، وعدم إدراك لطبائع الاستبداد الذي ينحني للعاصفة لتمريرها ثم القفز بكل شراسة على معارضيه، ليجعلهم عبرة للأجيال، فما وعد به مبارك كان محض “كلام فارغ” بهدف تمرير اللحظة الخانقة، وكسب الوقت لاستجماع قواه للانقضاض على فريسته وهي هنا الشعب الذي ثار ضده، وهو يعرف كل من خطط ونفذ وقاد تلك المظاهرات.

لم يكن متوقعًا أن يفي مبارك بعهوده، وأهمها الامتناع عن الترشح، بل كان المرجح بعد انصراف الثوار من الميادين أن يرشح نجله ليحقق حلمه في حياته، وقد كان الثوار واعين بهذه العقلية الاستبدادية، فرفضوا ما عرضه مبارك وأصروا على رحيله مهما كلفهم ذلك من ثمن، وهي الرسالة التي فهمتها جيدًا القوات المسلحة فخشت على مصالحها، حال تطور الحراك إلى فرض رئيس مدني بعيدًا عن المؤسسة العسكرية، فتدخلت لإنقاذ وضعها، وعقدت اجتماعًا لمجلسها الأعلى دون رئاسة مبارك، لتقول له إن الأمر قد انتهى، وأصرت في مفاوضات اللحظات الأخيرة مع مبارك على أن ينقل السلطة إليها مباشرة، وليس إلى أي جهة أخرى حتى لو كان رئيس المحكمة الدستورية العليا حسب ما طالب البعض.

أخطاء مبارك الكبرى

كان من أخطاء الثورة الكبرى القبول بهذه الصيغة لنقل السلطة من مبارك إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والانصراف من الميادين “وكأنك يا أبو زيد ما غزيت”، أو كأن ثورة لم تقم، فالثورة لا تتوقف حتى تفرض حكمها، وقد كان مفترضًا أن تتوافق قوى الثورة خلال الـ18 يومًا على بديل مدني يتولى السلطة، لكنها فشلت في ذلك، في الوقت الذي كانت المؤسسة العسكرية تتوقع حدوث هذا الأمر فاستعدت ببديلها وفرضته، لقد كانت القوات المسلحة تتوقع وصول البرادعي مع لفيف من الثوار إلى مبنى ماسبيرو لإعلان بيانهم الأول كحكومة مختارة من الميدان، وقد استعد الحرس الجمهوري المدافع عن ماسبيرو للتعامل مع هذا السيناريو كما روى المناوي في مذكراته (ص 378).

كان من الممكن تدارك هذا الخطأ بعد الأيام الثمانية عشر، بالتوافق على حكومة مدنية والضغط مجددًا على المجلس العسكري لتسليمها السلطة، لكن المشكلة أن الوقت لم يكن في صالح الثورة حيث نجح المجلس العسكري في بث الفُرقة بين مكوناتها خاصة حول استفتاء 19 مارس، ونجح بذلك في إلهاء تلك القوى في معارك بينية، بينما تفرغ هو لاستعادة زمام الأمور، وجاءت الفرصة مجددًا لقوى الثورة للتقدم خطوة بالتوافق على مرشح رئاسي يمثلها، في مواجهة مرشحي الدولة العميقة في أول انتخابات رئاسية نزيهة، لكنها أخفقت مجددًا، وتنافست بمرشحيها، صحيح أن القوة الشعبية الأكبر “جماعة الإخوان” استطاعت أن تصعد بمرشحها إلى كرسي الرئاسة بدلًا من مرشح الدولة العميقة، لكن القوى المدنية الأخرى ناصبته العداء منذ اليوم الأول، وحولت مهمتها من الدفع في اتجاه استكمال تحقيق أهداف الثورة إلى إفشال أول رئيس مدني أتت به الثورة بعد عقود من الحكم العسكري.

أبواب الأمل

رغم كل تلك الأخطاء فإن الثورة فتحت أبواب الأمل أمام المصريين، بأنهم يستطيعون التغيير، وبإمكانهم أن يقتنصوا حريتهم ويفرضوا مطالبهم حين يمتلكون الإرادة وحين تتوافر الظروف، وهو الحلم الذي ظل مستحيلًا لعقود سابقة. لقد نجح الشعب أخيرًا في انتخاب حاكم مدني وبرلمان نزيه ودستور عصري، والأهم هو ما تحقق للشعب من ثورة في الوعي، وفتح الصناديق السوداء، صحيح أن الثمن الذي دفعه الشعب لاحقًا كان باهظًا، لكن هكذا فعلت كل الشعوب التي سعت لنيل حريتها وكرامتها، وحتما سيأتي اليوم الذي يسعد فيه الشعب بنتيجة تضحياته، وتصبح تلك التضحيات ذكرى خالدة تتوارثها الأجيال “ليعلم أبناؤنا أن آباءهم كانوا رجالًا لا يقبلون الضيم، ولا ينزلون أبدًا على رأي الفسدة، ولا يقبلون الدنيّة في دينهم ووطنهم”.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان