الديكتاتور الروسي العنيد.. والكفء!

هذا المقال لا يهدف إلى تبييض وجه الديكتاتور، ولا هو محاولة لغسل السمعة السيئة للديكتاتورية، كنمط حكم قاسٍ، لا إنساني.
إنما هو استقراء لواقع الديكتاتور عندما يكون كفؤًا، وعندما يكون نظيره في مكان آخر عديم الكفاءة، غارقًا في البلادة مثل عالمنا العربي، وعالم الجنوب.
نهج الاستبداد والحكم المطلق لا يزال يهيمن على بلدان الكرة الأرضية، فالديمقراطية لا ترفرف على العالم كله، غالبية الدول لا تعرف الحكم الديمقراطي، وإذا كانت هناك أنظمة تعتمد الانتخابات في اختيار الحكام، فإنها ديمقراطية انتخابية شكلية، تأخذ قشرة الديمقراطية ومظهرها، أما في الجوهر فهي ديكتاتورية مُقَنَّعة.
22 عامًا من الحكم المطلق
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مُنتخب، لكن انتخابه ينتمي للشكل، وليس المضمون في النظام الديمقراطي الروسي غير الجاد، هو في السلطة منذ عام 2000، أي طوال 22 عامًا حتى اليوم، حاكمًا مطلقًا للدولة الروسية، وأخًا أكبر للدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991، ولا تزال تتبع روسيا وتدور في فلكها، وأحد أسباب الغزو الروسي لأوكرانيا أنها تمردت على التبعية لروسيا في 2014 وتلقي بنفسها في أحضان الغرب.
ديكتاتورية بوتين تظهر في كونه الحاكم الفرد في روسيا البلد الأكبر مساحة في العالم، وعندما وقف الدستور حائلًا أمام استمراره في الرئاسة بعد عام 2008، قام بتنفيذ لعبة تبادل الكراسي مع رئيس وزرائه الموثوق فيه ديمتري ميدفيدف، حيث أفسح له المجال ليترشح رئيسًا، ويتولى هو رئاسة الحكومة لمدة 4 سنوات، ثم يعود إلى الرئاسة مرة أخرى منذ 2012، وهو مستمر فيها حتى 2024، وقام بتعديل الدستور عام 2020، ليستطيع الترشح مجددًا لدورتين رئاسيتين، وإذا أراد الاستمرار في السلطة فسيكون مُتاحًا له البقاء حتى 2036.
غورباتشوف.. يلتسين.. بوتين
بوتين المنتخب رئيسًا في عملية ديمقراطية غير مكتملة، يمكن اعتباره مثل السكرتير العام للحزب الشيوعي الحاكم في زمن الاتحاد السوفيتي السابق، لا فرق كبير، فقط اختلاف في الاسم، إنما المخبر واحد، والسكرتير العام كان الحاكم المطلق للدولة، مثل ستالين وخروتشوف وبريجنيف وأندروبوف وتشيرنينكو وغورباتشوف.
لكن وأنت تتعامل مع روسيا بوتين، ليس بالضرورة أن تظل تستدعي الاتحاد السوفيتي زمن غورباتشوف، وهو آخر رئيس للقوة العظمى المنافسة للولايات المتحدة حيث تفكك في عام 1991، وكان غورباتشوف آخر سكرتير عام للحزب الشيوعي.
تولى بوريس يلتسين حكم روسيا، وشهدت مرحلته فوضى وعدم استقرار وضعف الاقتصاد ومصاعب في الحياة للروس، وشهد عقد التسعينيات من القرن الماضي خروج دول أوربا الشرقية عن سيطرة روسيا حيث أعلنت هذه البلدان استقلالها واتجهت إلى الارتباط بأوربا الغربية الرأسمالية، كما بدأت دول آسيوية مجاورة لروسيا -وكانت ضمن الاتحاد السوفيتي- في التمرد على الأبوية الروسية.
أمريكا.. وإهانة روسيا
وكان هذا العقد فرصة لأمريكا لتلعب كما تشاء في الحدائق الخلفية للدولة الروسية المرتبكة الجريحة، كما توسّع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليكون على حدودها عبر الانضمام التدريجي لدول أوربا الشرقية إليه، وأحد الأسباب الأساسية للغزو الروسي الحالي لأوكرانيا توجّه كييف للانضمام إلى الناتو، وهذا غير مقبول تمامًا من موسكو التي تعتبر أوكرانيا جزءًا من أمنها القومي ومجالها الحيوي ومصالحها العليا، ولذلك ترفض تمامًا وجود الناتو فيها بأي ثمن.
صورة الاتحاد السوفيتي المفكك كانت مزرية ومثيرة للسخرية والشماتة في الغرب، وخاصة أمريكا، وقد بالغ الإعلام الأمريكي عمدًا في رسم ونشر صورة سوداوية للأوضاع في روسيا، كانت صور الروس وهم يبحثون عن الطعام في القمامة مؤسفة، وكانت الصور الأكثر إهانة لجنرالات روس كبار يبيعون أوسمتهم ونياشينهم للحصول على الطعام، علاوة على مشاهد الفوضى والمافيا والفساد والانحلال وتجارة النساء، وكل هذا وغيره، كان مقصودًا في وسائل الإعلام الغربية والأمريكية بغرض إذلال القطب الأعظم الذي نافس أمريكا في كل مكان على وجه الأرض طوال سبعة عقود.
صعود الثعلب الماكر
مع الانتهاء الضروري لمرحلة الرئيس المريض بوريس يلتسين في ديسمبر 1999، كان لا بد أن يظهر شخص قوي يحاول إعادة الاتحاد الروسي إلى وضعه الحقيقي ويحفظ صورة هذه البلاد ذات التاريخ الطويل والعريق، وكان هذا الشخص هو فلاديمير بوتين ضابط المخابرات والثعلب الماكر صاحب النظرات الغامضة وقسمات الوجه الحادة والشفرة الشخصية التي يصعب فك رموزها بسهولة.
دخل بوتين عالم السياسة والحكم من باب الديكتاتورية الصريحة ليجلس على عرش الاتحاد الروسي ويكون المنقذ لبلاده وشعبه، وفي خططه مع جنرالاته ومستشاريه ورجاله وأجهزته وجيشه أن يسعى لإعادة روسيا قوة عظمى مَهيبة نافذة تستعيد إرث الاتحاد السوفيتي السابق.
ديكتاتور عنيد
ومن نمط حكمه ومسيرته طوال أكثر من عقدين، يُثبت بوتين أنه ديكتاتور ذكي، صلب، عنيد، كفء، متشدد في الدفاع عن بلاده وحماية مصالحها، ولو بخوض الحروب في عزم وتصميم دون تراجع أو استسلام مهما كانت نتائجها وكلفتها وحجم الإدانة لها.
وأوكرانيا هذه الأيام ساحة حرب أخرى تبرهن على قوة الديكتاتور بوتين، وعدم تساهله في التفريط بالأمن القومي لبلاده، وعدم المسّ به، أو تعريضه لأي مخاطر أجنبية.
يمكن أن تختلف معه في هذه الحرب، لكن هو يمتلك مبرراتها، ويخوضها ولا يبالي بأحد في العالم، وأوكرانيا ليست أفغانستان الاتحاد السوفيتي عام 1979، وروسيا اليوم ليست الدولة السوفيتية المترهلة المريضة التي سحبها الرئيس الأمريكي رونالد ريجان منذ بدء رئاسته في 1981 حتى نهايتها مطلع 1989 إلى طريق الانهيار والزوال.
بوتين منذ صار رئيسًا عام 2000، وهو يبنى قوته بصفته ديكتاتورًا عتيدًا، كما يبني قوة روسيا ويخطط للصعود بها مجددًا قوة عظمى يُحسب لها ألف حساب.
هو يُحكِم قبضته الحديدية على بلد ضخم مساحة وسكانًا وموارد هائلة، ويجيد استثمار هذه الأوراق وغيرها مما تذخر به بلاده ومما تركه الاتحاد السوفيتي، بجانب تطوير كل منظومة الحياة التقليدية والتكنولوجية والمعلوماتية واللوجستية بحيث لا يتخلف في أي مجال عن الغرب.
الفوز بكل المعارك والتحديات
وإذا راجعنا تاريخ هذا الديكتاتور الروسي -كما وصفه رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون- سنجده يفوز بكل المعارك والتحديات التي يخوضها سواء داخل بلاده أو خارجها، طوال فترة حكمه.
دخل الشيشان وأحكم قبضته على هذا البلد عام 1999 ولم يهتم بما قيل عن العنف والدموية في تلك الحرب، بعد فشل محاولة سابقة في عهد يلتسين عام 1994 لإخضاع هذا البلد لسلطان روسيا.
حارب جورجيا، وقضم منها منطقتين عام 2008، هما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، واعترف بهما جمهوريتين مستقلتين، ولم يهتم بالغرب والتنديد بالحرب، وخذلت أوربا وأمريكا جورجيا، مثلما يخذلان أوكرانيا اليوم.
وسلخ شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، وضمها إلى بلاده عام 2014، ثم يقضم منطقتين أخريين من هذا البلد اليوم، هما دونيتسك ولوغانسك، حيث يعترف بهما جمهوريتين مستقلتين، ويغزو أوكرانيا دون أن ترتعش يداه، والعالم يقف مذهولًا وهو لا يبالي بالاحتجاجات الواسعة، ولا يعتد بالعقوبات المشددة التي يتم فرضها على بلاده وعليه شخصيًّا.
من سوريا إلى ليبيا
وذهب إلى سوريا عام 2015، وبسط نفوذه عليها متحديًا الغرب الذي لم يتحرك لإنقاذ الشعب السوري من المجازر، وأنقذ حليفه الأسد من السقوط، وبهذه الخطوة يكون له وجود في الشرق الأوسط، ويضع أقدامه في المياه الدافئة بالساحل السوري على البحر المتوسط.
ويؤثر في ليبيا منذ انقسامها إلى معسكرين متقاتلين، وصارت موسكو محجًا للقادة الليبيين في الشرق والغرب لنيل المساندة، وتوسعت وتعززت علاقات روسيا مع العرب، ومنهم من كانوا في الخليج يعتبرون الشيوعية رجسًا من عمل الشيطان فلا يقربون هذا البلد، لكنهم صاروا يتوددون إليه، ويخطبون ودّه، ويستثمرون فيه.
دعم الحلفاء والأصدقاء
ويدعم حلفاء وأصدقاء بلاده القدامى والجدد دون تردد، إذ بجانب الأسد في سوريا، يساند الرئيس مادورو في فنزويلا، ويُفشل كل محاولات أمريكا للانقلاب الداخلي عليه، ويصطف مع كوبا بشكل دائم، ويقف مع الصين في حماية كوريا الشمالية، ويدعم إيران في صراعها مع أمريكا والاتحاد الأوربي، ولم يعد يمر قرار من مجلس الأمن إلا وفق حسابات موسكو وبعد تقديم التنازلات التي تريدها، وقد تعلّم من قرار وحيد في ليبيا عندما وافق على تدخّل الناتو فيه، ثم تطور التدخل من حماية المدنيين الليبيين إلى إسقاط حليفه القذافي.
لست معجبًا بالمستبد والديكتاتور والحاكم المطلق، إنما هناك واقع مؤلم، واقع القوة ولا شيء غيرها. وفي هذا السياق، هناك فارق بين حاكم لا يعرف من لغة القوة غير قمع شعبه فقط ليبقى في السلطة حتى لو مات هذا الشعب من تراكم الأزمات عليه، كما لا يبني بلاده، ولا يرد على إهاناتها وتهديدات مصالحها في الخارج، ولا يرفع قيمتها، ويفرض حضورها.. وحاكم آخر يُحسّن أوضاع مواطنيه، ويحافظ على قوة وطنه وهيبته وأمنه القومي ونفوذه الخارجي، فلا تجرؤ الثعالب على الاقتراب من ذيل الأسد.
الديكتاتور فاقد الكفاءة
الديكتاتور غير الكفء متوافر في النظام العربي، كلهم هذا الرجل الذي لا يعرف من الاستبداد غير الحكم بالحديد والنار، وإخضاع المواطنين، وكتم أنفاسهم، وإفقارهم وتجويعهم وتجهيلهم وتسطيح وعيهم حتى يبقى في السلطة مطمئنًا إلى أنه بات يحكم شعبًا غير موجود.
لم يفز حاكم بمعركة خارجية، كل المعارك التي ينتصر فيها داخلية، ضد مواطنيه، ولم يظهر ديكتاتور عربي كفء يجعل شعبه يعيش حياة مريحة، ويبنى نفوذًا وقوة لبلاده، ويسترد حقوقها، أو يدافع عنها بشراسة، بوتين العربي غير موجود.
مع هذا، فإننا نعوذ بالله من الديكتاتورية، وندعو الله بهبوب نسمات الديمقراطية المنعشة على بلادنا والعالم.