الحرب الروسية الأوكرانية: نهاية النظام العالمي الذي عرفناه

من أجل السلام في بودابست

 

(1)

“كلنا متساوون، ولكن بعضنا متساوون أكثر من الآخرين”.

جملة شهيرة قيلت على لسان عدد من الحيوانات التي شعرت بأنها تعامل كحيوانات درجة ثانية في رواية “مزرعة الحيوان” للكاتب البريطاني الشهير “جورج أورويل”، تذكرها البعض الآن وهم يتابعون اهتمام الغرب (أمريكا وأوربا) ومن ورائهم وسائل الإعلام العالمية ومنصات التواصل المملوكة للغرب بما يحدث على الساحة الأوكرانية في محاولة واضحة لحشد الرأي العام العالمي ضد روسيا ممثلة في رئيسها “بوتين”، في حين لم يشهد سكان الكوكب من قبل مثل هذا الغضب الغربي تجاه حروب أخرى أكثر عنفا وتدميرا اندلعت في أفريقيا وآسيا، دمرت فيها بلدان وتشرد ملايين من أهلها، حينها وقف الغرب موقف المتفرج عن بعد أو على أكثر تقدير موقف المراقب عن كثب، أما في حالة الحرب الروسية الأوكرانية فإن الموقف مختلف تماما.  تشعر بأن معركة “كييف” تمثل للغرب قيمة تقارب سقوط جدار برلين، وهو عازم على الانتصار من جديد على عدوه التقليدي وريث الاتحاد السوفيتي السابق الذى يحاول “بوتين” بعثه بعد موات. سقط الاتحاد السوفيتي دون طلقة رصاص، انهار الكيان العملاق بسرعة وسهولة بسبب الفساد والجمود الذي نهشه من الداخل. عدم مرونته تجاه التغيرات الاقتصادية العالمية وعدم الالتفات إلى طموحات مواطنيه ورغباتهم التي أغوتهم بها الرأسمالية العالمية ومفاهيم العولمة، جعل مهمة الغرب سهلة وأصبح نموذجه الحياتي حلما لكل مواطني دول الاتحاد السوفيتي السابق. أما الآن فإن الغرب في معركته مع روسيا لا يستخدم فقط القوى الناعمة من إعلام وتصريحات نارية وحشد مؤيدين ولكنه يضيف إليهم كل أدواته التي يمتلكها للردع. الناتو يحشد قواته شرقا وأمريكا والعديد من الدول الأوروبية أعلنت عن إرسال دعم عسكري لأوكرانيا إلى جانب المساعدات الإنسانية وفتح حدودها لاستقبال النازحين جراء الحرب، كما تتزعم أمريكا حملة دولية لعزل روسيا وتقويض اقتصادها بحزمة عقوبات لم يسبق لها مثيل. الغرب يواجه لأول مرة منذ عقود معركة وجود، مفاهيمه حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات ومنظومة قيمه الحاكمة التي روج لها على أنها وحدها دون غيرها القادرة على إسعاد الناس حول العالم وتحسين حياتهم، محل مراجعة وتقييم وقد أصبحت مرهونة بما ستسفر عنه الحرب الروسية على أوكرانيا من نتائج.

(2)

الحروب، تندلع لفرض واقع جديد بقوة السلاح بدوافع كثيرة منها: الاستغلال والسيطرة والهيمنة، أو بسبب فشل المفاوضات والمحادثات الدبلوماسية حول ملفات خلافية بين الدول. الحروب دوما تثير تساؤلات أكثر مما تجيب عن أسئلة، لا أحد يملك إجابات دقيقة عن مآلات الحروب ونتائجها، فمن السهل أن تحدد تاريخا لبدء حرب لكن من المستحيل أن تضع موعدا لإنهائها، فالحروب مثل الرمال المتحركة، كلما تقدمت فيها انغرزت أقدامك في دوامة الرمال. الحديث عن دوافع “بوتين” الواضحة والخفية من التدخل العسكري في أوكرانيا لن يقدم أو يؤخر، الحديث الآن حول كيف سينهي “بوتين” هذه الحرب إذا فشل في إقناع الرئيس الأوكراني عبر المفاوضات الجارية على أراضي بيلاروسيا والوساطات الدولية بالموافقة على الشروط التي وضعها؟

المواطن البسيط في العالم يتساءل باهتمام: متى ستنتهي هذه الحرب التي ليس له فيها ناقة ولا جمل لكنها ستؤثر على حياته؟ ارتفاع أسعار القمح والنفط والعديد من المعادن الأولية المهمة في التصنيع والتشييد سيكون له تأثير مباشر على حياة المواطن في كل بقاع كوكبنا، البورصات العالمية تأثرت بهذه الحرب، وكذلك دورات التصنيع والشحن والنقل. معظم دول العالم تأثرت اقتصاديا بجائحة كورونا، وكان لديها أمل في التعافي من تبعات هذا الوباء الذي حال دون الكثير من الأنشطة الاقتصادية وعلى رأسها حركة الطيران والسياحة العالمية كما ارتفعت أسعار السلع عالميا بسبب حالة الاضطراب التي شهدتها سلاسل الإمداد، كانت الآمال معقودة على عام 2022 ليكون بداية التعافي ومعاودة الأنشطة المتوقفة والنمو الاقتصادي، لكن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا بدّد هذه الأماني، وزادت الطين بلّة مخاوفُ توسع رقعة الحرب ورهاب استخدام السلاح النووي.

(3)

لا أحد حتى هذه اللحظة يمكن أن يحدد مكاسب وخسائر الجانب الروسي من العملية العسكرية التي قام بها “بوتين”، ولكن بالتأكيد ستكون هناك نتائج محسومة نتيجة هذا الصراع الذى يدور على أراضي القارة العجوز، أولها مكانة الغرب من النظام العالمي التي ستتبلور نتيجة تداعيات هذه الحرب، ومنها تكوين تحالفات دولية وإقليمية جديدة ستنهي حالة القطب الواحد والإدارة الأحادية للعالم من جانب أمريكا، وصعود الصين قوةً فاعلة سياسيا على المسرح الدولي، وأن الدول التي لا تدور في فلك الغرب ستبحث بجدية عن أنظمة مصرفية بديلة عن النظام المصرفي الغربي قلقًا من سلاح العقوبات الذي تشهره أمريكا دومًا، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى تراجع الدولار عن عرشه في التعاملات الدولية، كما يُتوقَّع حدوث تغييرات واسعة في النظام الأساسي لمنظمة الأمم المتحدة التي لم يعد نظامها فعالا في التعامل مع ما يواجه عالمنا من تحديات وكذلك التغيرات الجيوسياسية التي حدثت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، كما سيشهد العالم تغيّرًا ملحوظًا في القوة العسكرية في ألمانيا واليابان وسيؤدي ذلك إلى تغيرات في موازين القوة. بالنسبة لوطننا العربي سيكون لديه فرصة كبيرة، لو توفرت الإرادة السياسية وتمت تنحية الخلافات والصراعات بتقوية المشتركات، في تكوين اتحاد عربي على غرار الاتحاد الأوروبي، وسيتمكن حينها من التموضع ليكون قوة مؤثرة وفاعلة إقليميا ودوليا في المرحلة المقبلة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان