هل فشل اجتماع أنطاليا في حل الأزمة الروسية الأوكرانية؟

حينما بذلت الدبلوماسية التركية جهودا جبارة من أجل جمع وزيري خارجية كل من روسيا سيرجي لافروف، وأوكرانيا ديمترو كوليبا على طاولة مفاوضات واحدة في مدينة أنطاليا الساحلية كانت تدرك تماماً أن مهمتها صعبة، وأن فرص الخروج من هذا الاجتماع بنتائج سريعة وحاسمة تفضي إلى إنهاء الحرب الدائرة بين الدولتين، أو على الأقل التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار – كما توقع البعض – أمر صعب المنال، بل ربما يكون مستحيلا في ظل حالة التحفز التي يبديها الطرفان، والشروط الروسية التي وضعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
الهدف التركي تمحور منذ البداية حول ضرورة كسر الثلوج التي باتت تغلف مجرى العلاقات الروسية الأوكرانية عن طريق جمع الفرقاء، وإتاحة الفرصة كاملة للقنوات الدبلوماسية، وفتح المجال أمام عقد لقاءات مباشرة على مستوى رفيع، لبحث العوامل التي أدت إلى تصاعد الموقف بهذه الصورة الدامية، وأدت إلى نشوب حرب سيدفع ثمنها العالم أجمع، وسيعاني من ويلاتها المدنيون.
وهو الأمر الذي نجحت فيه تركيا نجاحاً كبيراً، بعد أن جلس الوزيران معا وجرت مناقشتهما في هدوء تام، ودون أي توترات تذكر، كما صرح وزير الخارجية التركي، الذي اعتبر ذلك مؤشرا إيجابيا يمكن البناء عليه، خصوصا بعد أن اقتنع الجانبان بأهمية المفاوضات المباشرة بينهما حتى يمكن التوصل إلى اتفاق كامل لوقف إطلاق النار، وإتاحة الفرصة لمباحثات ثنائية أكثر عمقا، وفق أجندة محددة، لايجاد حلول جذرية للمشاكل العالقة بينهما.
ليس الخطوة التركية الأولى
الوساطة التركية لجمع الفرقاء ليست الخطوة الأولى التي خطتها أنقرة في هذا المجال منذ بداية الأزمة الأوكرانية، إذ سبق لها القيام بالعديد من المحاولات الدبلوماسية لمنع اندلاع الحرب، وقام الرئيس أردوغان بزيارة لكل من موسكو وكييف لهذا الغرض، فأنقرة ترى أن هذه الأزمة تمثل تحديا كبيرا لها، خصوصا مع حجم علاقاتها العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية والسياسية بطرفي الصراع، الأمر الذي يملي عليها ضرورة التحرك والعمل على إطفاء نيران هذه الحرب بأسرع وقت ممكن قبل أن تمتد شرارتها إلى دول أخرى في المنطقة.
وفي الحقيقة لا يستطيع أحد إنكار أن الدبلوماسية التركية نجحت إلى حد كبير في سياسة التوازنات التي تحرص عليها في مجمل علاقاتها الخارجية، الأمر الذي ساهم في تمهيد الطريق أمامها لبناء علاقات جيدة مع الفرقاء قبل الأصدقاء، ما منحها القدرة على لعب دور أقليمي ودولي في مختلف القضايا الهامة على الساحة السياسية، وهو ما يحدث الآن بالنسبة للأزمة الأوكرانية.
خصوصا وأن تركيا منذ بداية الأزمة استندت إلى عدة معطيات في تحديد موقفها تجاة الأطراف المتنازعة، نظرا لموقعها الجغرافي، ودورها الجيوسياسي في البحر الأسود، وحجم العلاقات الذي يربطها معهما.
مرتكزات الاستراتيجية التركية للوساطة في الأزمة الأوكرانية
ولهذا أرتأت القيادة السياسية التركية توجيه استراتيجيتها تجاه الأزمة من خلال مجموعة من المحددات ترتكز على عوامل عدة، أهمها عضويتها في حلف الناتو، وامتلاكها العديد من العلاقات التاريخية والثقافية مع دول وشعوب منطقتي القوقاز والبلقان، إلى جانب وجود علاقات قوية لها مع روسيا التي تطورت بصورة كبيرة خلال السنوات القلليلة الماضية، بعد أن ارتبطت الدولتان بالكثير من الاستثمارات الاستراتيجية والمشروعات التجارية، والتعاون في مجال الطاقة، وفي هذا المجال تحديدا تعد مشاريع نقل الغاز الروسي عبر الأراضي التركية، واتفاق الأخيرة مع موسكو على توليها مهمة إقامة محطات نووية لتوليد الطاقة النظيفة من أهم مرتكزات العلاقات التركية – الروسية، فضلا عن التعاون العسكري الذي تمثل في صفقة منظومة الصواريخ الدفاعية إس – 400 .
وعلى نفس الوضع مع أوكرانيا، إذ تعد تركيا أحد أبرز المستثمرين الاقتصاديين في أوكرانيا، بعد أن وصل حجم التبادل التجاري بينهما لاكثر من 7 مليارات دولار، ووجود أكثر من 750 شركة تركية تعمل على الأراضي الأوكرانية، إضافة إلى وجود اتفاقية للتجارة الحرة بينهما، مقرر لها أن تدخل حيز التنفيذ بداية العام المقبل 2023، والتي سيتم بمقتضاها إلغاء الرسوم الجمركية على حوالي 95% من السلع التي تصدرها أوكرانيا إلى تركيا.
هذا وشهدت العلاقات الاستراتيجية والعسكرية التركية الأوكرانية تطوراً كبيراً، وتعد اتفاقية التعاون الدفاعي المشترك، وقيام تركيا ببيع عدد من طائراتها المسيرة لأوكرانيا من أبرز مجلات التعاون المشترك بينهما.
أما على صعيد الطاقة، فتركيا مثلها في ذلك مثل جميع دول العالم التي تعتمد على الغاز الروسي، لديها الكثير من المخاوف مع تصاعد وتيرة العقوبات الأمريكية على روسيا، إذ من المنتظر أن يكون لها العديد من السلبيات على تركيا، خاصة في حال تم تطبيقها على خطوط الغاز الروسي إلى أوربا، هذه الخطوط التي توفر لكل من روسيا وتركيا موقعا محوريا في أسواق الغاز الأوربية.
وسيط نزيه
ودرءا لجملة المخاطر التي يمكن أن تنعكس سلبا على شعبها وشعوب المنطقة جراء الحرب الروسية على أوكرانيا، سعت تركيا لانتهاج سياسة متوازنة تتماهى في مجملها مع السياسات التي ينتهجها كل من الاتحاد الأوربي ودول حلف الناتو، دون أن يغير ذلك من سياستها الخاصة أو يمس علاقاتها تجاه جارتيها المتحاربيتن.
فتركيا دعمت أوكرانيا، وأعلنت رفضها المطلق للحرب الروسية عليها، معتبرة هذا التصرف الروسي انتهاكا للقانون الدولي، وقامت بمنع مرور السفن الحربية في مضايقها وفق بنود معاهدة مونترو، كما سبق لها إعلان موقفه الرافض من ضم روسيا شبه جزيرة القرم، الذي اعتبرته غير شرعي، لكنها في الوقت ذاته رفضت الانضمام إلى المقاطعة الاقتصادية التى فرضتها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي على روسيا، مع سعيها للقيام بوساطة بين الطرفين بهدف تخفيف حدة التوتر، والعمل على إيقاف الحرب، ومحاولة الحد من سلبياتها على دول وشعوب المنطقة، وفي الوقت نفسه تفادي تقديم أي تنازلات يمكن أن تضر بمصالحها سواء الآنية أو المستقبلية.
وتظهر المؤشرات أن أنقرة استطاعت حتى الآن ومن خلال هذه السياسة الحفاظ على عمق علاقاتها بطرفي الأزمة الأوكرانية، ونجحت في القيام بدور الوسيط النزيه الذي يعمل لصالح جميع الأطراف، وهو الدور الذي أصبح يلاقي ترحيبا من الاتحاد الأوربي وحلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية.