المرأة وولاية القضاء بين الفقه والواقع

صدر في مصر قرار بتولي عدد من النساء القضاء، وتم تنفيذه في الخامس من مارس/ آذار سنة 2022م، ومن عادة مثل هذه الموضوعات التي تتماسّ مع رأي الفقه والشريعة، أن يثار حولها النقاش والخلاف بين ذاهب إلى التراث الفقهي جالبا لآراء الفقهاء في تولي المرأة القضاء، متبنيا رأيا معينا منه، ومتغافل عن الثراء الفقهي فيه، في قضية اختلف فيها هؤلاء الفقهاء.
والخبر الذي تم الاحتفاء به بتولي المرأة القضاء بهذا العدد غير المسبوق في تاريخ مصر، هو قضية ذات عدة أبعاد، وهو ما نتناوله مختصرا، فهناك بعد ديني شرعي يتعلق بالتراث الفقهي حيث غلب على النقاشات هذا الجانب، وبعد آخر أراه مهما أيضا، وهو: جانب الواقع، هل سيختلف واقعنا فعلا بتولّي امرأة القضاء بدل رجل، أم أن الأمر أكبر من ذلك، من حيث النظر إلى منظومة العدالة والحقوق في مصر؟
موقف الشريعة والفقه:
أما عن موقف الشريعة والفقه الإسلامي، فهو كشأن كثير من هذه القضايا التي هي موضع ذات الخلاف والنقاش بين الفقهاء قديما وحديثا، فقد اختلف الفقهاء قديما في هذه المسألة إلى ثلاثة آراء، فريق يرى عدم جواز تولي المرأة القضاء، وهو جمهور الفقهاء: مالكية، وشافعية، وحنابلة، ويستند إلى أدلة من أهمها: قوله صلى الله عليه وسلم: “ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”، وإلى أن القاضي يحضر المحافل التي فيها الخصوم وأغلبهم رجال، والمرأة ليست ذات خبرة بهذه المجال والمعاملات[1].
والمتأمل لهذا الرأي والتوجه من الفقهاء الذين يمنعون تولي المرأة القضاء، يجد أنهم رأو بحكم طبيعة مجتمعاتهم، وطبيعة نساء زمانهم، أن القضاء يتطلب عملا بشكل معين، يتعارض في كثير من شروطه مع طبيعة المرأة آنذاك. إضافة إلى النصوص التي ساقوها، وفهموا منها المنع، وهي نصوص لم تسلم من النقاش لدى من رفضها من الفقهاء أصحاب الأقوال الأخرى.
أما الفريق الثاني فهم الأحناف، وعلى رأسهم: أبو حنيفة، فهم يجيزون تولي المرأة القضاء فيما تشهد فيه، أي في كل شيء عدا الدماء والأعراض[2]. ووجهة نظرهم في ذلك أنه من باب صيانة المرأة عن الكلام في الدماء ومراعاة شعورها في هذا الشأن، فالمرأة مجبولة بفطرتها على بغض الدم والقتل، كما أن قضية الشهادة في الأعراض تتطلب رؤية الفعل بشكل دقيق، وهو ما يتعارض مع فطرة المرأة التي تميل إلى الحياء، واستبشاع رؤية ذلك، فضلا عن قدرتها على وصف حدث كهذا في ساحة القضاء أمام الناس.
وهناك فريق ثالث من الفقهاء يرى جواز أن تتولى المرأة القضاء بدون قيد، في كل القضايا، ومن هذا الفريق الحسن البصري، وابن جرير الطبري، وابن حزم[3]. ووجهة نظرهم أن المرأة يجوز لها أن تكون مفتية، فمن باب الأولى أن يجوز لها أن تكون قاضيا، لأن المفتي يبين الحكم الشرعي بناء على علم ونظر وتقدير ومسؤولية، أما القاضي فإنه يبين ذلك بسلطة الدولة [4].
وما نراه يتوافق مع النصوص العامة ومقاصد الشريعة، هو جواز تولي المرأة القضاء، ولا يمنعها من ذلك مانع شرعي، إلا ما يتعلق بقدرات كل شخص على تولي المنصب، رجلا كان أو امرأة، من حيث تأهيله علميا وأخلاقيا، ومن حيث القدرة على القيام بالعمل، نظرًا لخطورته وتعلقه بمصير الناس ومصالحها، وبمقدرات الأمة والشعوب.
الواقع القضائي والحقوقي في مصر:
أما السؤال الأهم: فهو عن الواقع القضائي والحقوقي في مصر، هل يفرق معه أن تتولى المرأة القضاء أو يتولاه غير مسلم؟ لقد راح الناس يختلفون ويحتدم النقاش بينهم في تولي المرأة القضاء، وكأن العدل في مصر أصبح مرهونا بتقدمه وإنجازه بتولي المرأة أو الرجل، السؤال الأهم هنا: ماذا سيتغير في منظومة العدالة والحقوق في مصر، سواء كان القاضي امرأة أو رجلا، مسلما أو مسيحيا؟
الإجابة المنصفة هنا: أن القضاء المصري في أزمة كبرى، لأنه مسيَّس بشكل ملحوظ، فماذا سنجني إن جلست امرأة مكان القاضي ناجي شحاتة، أو القاضي محمد شيرين فهمي، وبدل أن يصدر الأحكام الجزافية بالإعدام رجل، فأصدرتها امرأة؟ هل سيختلف هنا ميزان العدالة؟ لن يختلف، المهم هنا أن تكون منظومة العدالة، ومؤسسة القضاء نزيهة وحيادية، ولها مطلق الحرية في القول بالحق، وهو ما لا يحدث في بلادنا.
لن يتغير حال المظالم وتنتهي بمجرد أن جلست على المنصة امرأة، أو متدين تدينا شكليا، بينما ينتهي التحقيق أو يستمر الحبس للمظلوم بسماعة هاتف ترن على وكيل النيابة فيجدد، لقد رأينا قضاة يساقون للسجون للتحقيق مع متهمين أبرياء، وعندما وصل وكيل النيابة وفرح المتهم ليخبره بأن اعترافاته كانت تحت التعذيب والتهديد بأهله، قال وكيل النيابة للضباط: لقد أتيتم لي بتمهم ينكر، عودوا به كي يعترف، أي أنه يأمرهم بالتعذيب ولكن المهم أن تكتمل الجريمة خارج مكتبه!!
الموقف الفقهي من تولي المرأة القضاء معروف، بل نزيد وتولي الرئاسة، ونتمنى أن تترشح غدا عشرات النساء للرئاسة، مرحبا بذلك، ها قد عرفنا الموقف الفقهي، وهو ليس النقطة الأهم هنا في المسألة، بل النقطة الأهم هو التنفيذ والتطبيق، فالقضاء أساس العدل والحق، وإذا غاب عنه فما قيمة أن نباهي بتولي امرأة أو مسيحي، أو ذوي احتياجات خاصة، أو غيرههم، المباهاة تكون بالعدل والحق.
مصر ليست بحاجة عاجلة لإجراء من باب التجميل، أو الأسبقية في تولي المرأة أمرا ما، بل بحاجة إلى إرساء العدل والحق، ولذا كان بعض المتشددين في قضية تولي المرأة حينما يستدلون بحديث “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”، يرد عليهم شيخنا القرضاوي بقوله “وهل يفلح قوم ولوا أمرهم طاغية؟!” هذا هو الأولى بالنقاش والتطبيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: المغني لابن قدامة (11/380).
[2] انظر: شرح فتح القدير لكمال الدين بن الهمام (7/297)، والبناية شرح الهداية للعيني (9/46)،.
[3] انظر: المحلى لابن حزم (12/320)، ونيل الأوطار للشوكاني (8/720).
[4] انظر: نظام القضاء في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد الكريم زيدان ص: 27، وأصول المحاكمات الشرعية والمدنية للدكتور محمد الزحيلي ص: 51.